للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّورُ مَا تُوَصِّلُ إِلَيْهِ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ مِنَ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ وَمَشْيُهُ فِي النَّاسِ كَوْنُهُ صَارَ مُحْضِرًا لِلْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَلَايَا الرُّوحَانِيَّةِ نَاظِرًا إِلَيْهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:

الْحَيَاةُ الِاسْتِعْدَادُ الْقَائِمُ بِجَوْهَرِ الرُّوحِ وَالنُّورُ اتِّصَالُ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ بِهِ فَالْبَصِيرَةُ لا بد فيها من أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ حَاسَّةِ الْعَقْلِ، وَطُلُوعُ نُورِ الْوَحْيِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ الْحَاسَّةِ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا. وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَفْهُومَاتِهَا.

وَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ: فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً وَفِي صِفَةِ الْكَافِرِ لَمْ يَنْسُبْهَا إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ مُتَعَدِّدَةً قَالَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا ذَكَرَ جَعْلَ النُّورِ لِلْمَيِّتِ قَالَ: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أَيْ يَصْحَبُهُ كَيْفَ تَقَلَّبَ، وَقَالَ: فِي النَّاسِ إِشَارَةً إِلَى تَنْوِيرِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَذَكَرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَقَابَلَ تَصَرُّفَهُ بِالنُّورِ وَمُلَازِمَةُ النُّورِ لَهُ بِاسْتِقْرَارِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُماتِ وَكَوْنِهِ لَا يُفَارِقُهَا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ لَيْسَ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ هُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «١» وَإِلَى ظُلْمَةِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَثَلِ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «٢» وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَفَمَنْ الْفَاءُ بَدَلُ الْوَاوِ.

كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُؤْمِنِ أَوْ إِلَى كَوْنِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا الْمُؤْمِنَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِ أَوْ كَكَيْنُونَةِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ، زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ غيره: الله تعال وَجَوَّزَ الْوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّزْيِينِ وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ الْأَكَابِرُ الْأَصَاغِرُ.

وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أَيْ كَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ صَنَادِيدَهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَسَادَ حَالِ الْكَفَرَةِ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ إِذْ حَالُهُمْ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ يَعْنِي أَنَّ التَّمْثِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَذلِكَ زُيِّنَ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى مَا أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ أَكابِرَ مُجْرِمِيها وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني وأَكابِرَ عَلَى هَذَا مُضَافٌ إِلَى مُجْرِمِيها، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها بَدَلًا مِنْ أَكابِرَ وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها


(١) سورة الحديد: ٥٧/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>