للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُوَ الْعَهْدُ جَعَلَهُ وَالذِّمَّةَ لَفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِلَّ غَيْرُ الْعَهْدِ فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَبَايِنَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ ذَكَرَ حَالَهُمْ مَعَهُمْ إِذَا كَانُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ، فَقَالَ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَاسْتَأْنَفَ هَذَا الْكَلَامَ أَيْ: حالهم في الظاهر يخالف لِبَاطِنِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيرٌ وَاسْتِبْعَادٌ لِثَبَاتِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ، وَإِبَاءُ الْقَلْبِ مُخَالَفَتُهُ لِمَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ فِي الْعِدَةِ بِالْإِيمَانِ، وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ. وَقِيلَ: يُرْضُونَكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ إِلَّا الْمَعْصِيَةَ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الْأَكْثَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقِيلَ: وَأَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَضَى اللَّهُ لَهُ بِالْإِيمَانِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ حِفْظٌ لِمُرَاعَاةِ الْحَالِ الْحَسَنَةِ مِنَ التَّعَفُّفِ عَمَّا يَثْلِمُ الْعِرْضَ، وَيَجُرُّ أُحْدُوثَةَ السُّوءِ، وأكثرهم خبثا الْأَنْفُسِ خِرِيجُونَ فِي الشَّرِّ لَا مُرُوءَةَ تَرْدَعُهُمْ، وَلَا طِبَاعَ مَرْضِيَّةً تَزَعُهُمْ، لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ كَذِبٍ وَلَا مَكْرٍ وَلَا خَدِيعَةٍ، وَمَنْ كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَانَ مذموما عند الناس في جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ كُفَّارٌ كَيْفَ يَمْدَحُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَفَافِ وَبِالصِّدْقِ وَبِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَبِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَأَكْثَرُهُمْ وَكُلُّهُمْ فَاسِقُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْكَرْمَانِيُّ.

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: اشْتَرَوْا بِالْقُرْآنِ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ لَمَّا تَرَكَتْ دِينَ اللَّهِ وَآثَرَتِ الْكُفْرَ، كَانَ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَعَامِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَآيَاتُ اللَّهِ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الطَّائِفِ كَانُوا يَمُدُّونَ النَّاسَ بِالْأَمْوَالِ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ صَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَدَلُوا عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَاءَ هُنَا مُحَوَّلَةٌ إِلَى فِعْلٍ. ومذ هو بَابِهَا مَذْهَبُ بِئْسَ، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَى وَصْفِهَا الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْ: أَنَّهُمْ سَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَحُذِفَ الْمَفْهُومُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.

لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ «١» يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، نَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْمُنَافَاةِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأُولَئِكَ أَيِ


(١) سورة التوبة: ٩/ ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>