للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَالُ: رَعَوْتُهُ أَيْ كَفَفْتُهُ فَارْعَوَى فَانْكَفَّ، وَوَزْنُهُ افْعَلَّ. وقرأ نضير بْنُ عَاصِمٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَنْثُونَ بِتَقْدِيمِ النُّونِ عَلَى الثَّاءِ، فَهَذِهِ عَشْرُ قِرَاءَاتٍ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ.

وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ مَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم من الْكُفَّارِ أَيْ: يَطْوُونَ صُدُورَهُمْ على عداوته. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يَزْوَرُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَيَنْحَرِفُونَ عَنْهُ، لِأَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ اسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ، وَمَنِ ازْوَرَّ عَنْهُ وَانْحَرَفَ ثَنَى عَنْهُ صَدْرَهُ وَطَوَى عَنْهُ كَشْحَهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، يَعْنِي: وَيُرِيدُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ، فَلَا يُطْلِعُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى ازْوِرَارِهِمْ. وَنَظِيرُ إِضْمَارِ يُرِيدُونَ، لِعَوْدِ الْمَعْنَى إِلَى إِضْمَارِهِ الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «١» مَعْنَاهُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَمَعْنَى أَلَا حِينَ: يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ وَيُرِيدُونَ الِاسْتِخْفَاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ أَيْضًا كَرَاهَةً لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ «٢» انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَحُ الْأَجْزَلُ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا لَقِيَهُمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَامَنُوا وَثَنَوْا صُدُورَهُمْ كَالْمُتَسَتِّرِ، وَرَدُّوا إِلَيْهِ ظُهُورَهُمْ، وَغَشُوا وُجُوهَهُمْ بِثِيَابِهِمْ تَبَاعُدًا مِنْهُمْ وَكَرَاهِيَةً لِلِقَائِهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَزَلَتِ الْآيَةِ انْتَهَى.

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِيَسْتَخْفُوا مُتَعَلِقًا بُقُولِهِ: يَثْنُونَ، وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلْغِلِّ، وَالْحِقْدِ الَّذِي كَانُوا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَطْوِي كَشْحَهِ عَلَى عَدَاوَتِهِ، وَيَثْنِي صَدْرَهُ عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَا إِنَّهُمْ يُسِرُّونَ الْعَدَاوَةَ وَيَتَكَتَّمُونَ لَهَا، لِيَخْفَى فِي ظَنِّهِمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ تَعَالَى حِينَ تَغَشِّيهِمْ بِثِيَابِهِمْ وَإِبْلَاغِهِمْ فِي التَّسَتُّرِ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حِينَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ، وَكَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ لَا لِلْمُضْمَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُرِيدُونَ الِاسْتِخْفَاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَلَا حِينَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَسْتَخْفُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَعْلَمُ.

وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْحَنِي عَلَى بَعْضٍ لِيَسَارِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَ مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ قَتَادَةُ: أَخْفَى مَا يَكُونُ إذا حتى ظَهْرَهُ وَاسْتَغْشَى ثَوْبَهُ، وَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ هِمَّتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَطْوُونَهَا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْفُونَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الشَّحْنَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُخْفُونَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَكْتُمُونَهَا إِذَا


(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٦٣.
(٢) سورة نوح: ٧١/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>