للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَصْحَابِهِ، كَانَ فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ فِي خُشُونَةِ عَيْشٍ وَرَثَاثَةِ سِرْبَالٍ وَالْمُشْرِكُونَ يدهنون رؤوسهم وَيُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ وَفَاخِرَ الْمَلَابِسِ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أَيْ مَنْزِلًا وَسَكَنًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَأَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَارَضُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ بِحُسْنِ شَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدُلُّ عَلَى كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يُتْلَى بِالْيَاءِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتْلُو عَلَى الْكَافِرِ الْقُرْآنَ وَيُنَوِّهُ بِآيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ الْكَافِرُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ اللَّهُ لِأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَيُنْعِمُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَحْنُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا دُونَكُمْ فَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَأَنْتُمْ فُقَرَاءُ، وَنَحْنُ أَحْسَنُ مَجْلِسًا وَأَجْمَلُ شَارَةً.

وَمَعْنَى بَيِّناتٍ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ مُلَخَّصَاتِ الْمَعَانِي أَوْ ظَاهِرَاتِ الْإِعْجَازِ أَوْ حُجَجًا وبراهين. وبَيِّناتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ آيَاتِهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ دَائِمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَقاماً بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْجُعْفِيُّ وَأَبُو حاتم عن أبي عمر وبضم الْمِيمِ وَاحْتَمَلَ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ مَوْضِعَ قِيَامٍ أَوْ إِقَامَةٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مِمَّنْ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ وَاتِّعَاظًا لَهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَّعِظُ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ حُسْنِ الْأَثَاثِ وَالرِّيِّ، وَيَعْنِي إِهْلَاكَ تَكْذِيبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. ومِنْ قَرْنٍ تبيين لكم وكَمْ مَفْعُولٌ بِأَهْلَكْنَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُمْ أَحْسَنُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صفة لكم. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ هُمْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ انْتَهَى. وَتَابَعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّ هُمْ أَحْسَنُ صِفَةٌ لِكَمْ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَرْنٍ، وَجُمِعَ لِأَنَّ الْقَرْنَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ فَرُوعِيَ مَعْنَاهُ، وَلَوْ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ عَرَبِيًّا فَصَارَ كَلَفْظِ جَمِيعٍ. قَالَ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «١» وَقَالَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَوَصَفَهُ بِالْجَمْعِ وَبِالْمُفْرَدِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَثَاثِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.

وقرأ الجمهور وَرِءْياً بالهمزة مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالطِّحْنِ وَالسِّقْيِ.


(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>