للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَوْمُ نَنْفُخُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَنَحْشُرُ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيدٌ: نَنْفُخُ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية، وَالنَّافِخُ هُوَ إِسْرَافِيلُ وَلِكَرَامَتِهِ أَسْنَدَ مَا يَتَوَلَّاهُ إِلَى ذاته المقدسة والصُّورِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الأنعام. وقرىء يَنْفُخُ وَيَحْشُرُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عِيَاضٍ فِي جَمَاعَةٍ فِي الصُّورِ عَلَى وَزْنِ دُرَرٍ وَالْحَسَنُ:

يُحْشَرُ، بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَيَحْشُرُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِالْيَاءِ أَيْ وَيَحْشُرُ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزُّرْقِ زُرْقَةُ الْعُيُونِ، وَالزُّرْقَةُ أَبْغَضُ أَلْوَانِ الْعُيُونِ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّ الرُّومَ أَعْدَاؤُهُمْ وَهُمْ زُرْقُ الْعُيُونِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي صِفَةِ الْعَدُوِّ: أَسْوَدُ الْكَبِدِ، أَصْهَبُ السِّبَالِ، أَزْرَقُ الْعَيْنِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ ... بِكَفِّي سَبَنَتَى أَزْرَقِ الْعَيْنِ مُطْرِقِ

وَقَدْ ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ سُودَ الْوُجُوهِ، فَالْمَعْنَى تَشْوِيهُ الصُّورَةِ مِنْ سَوَادِ الْوَجْهِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَأَيْضًا فَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِالزُّرْقَةِ. قال الشاعر:

لقد زرقت عَيْنَاكَ يَا ابْنَ مُكَعْبَرٍ ... ألا كل عليسى مِنَ اللُّؤْمِ أَزْرَقُ

وَقِيلَ: الْمَعْنَى عُمْيًا لِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا ذَهَبَ نُورُهَا ازْرَقَّ نَاظِرُهَا، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ زُرْقاً في هذه الآية وعُمْياً «١» فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: زَرُقَ أَلْوَانُ أَبْدَانِهِمْ، وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّشْوِيهِ إِذْ يجيؤن كَلَوْنِ الرَّمَادِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُسَمَّى هَذَا اللَّوْنُ أَزْرَقَ، وَلَا تَزْرَقُّ الْجُلُودُ إِلَّا مِنْ مُكَابَدَةِ الشَّدَائِدِ وَجُفُوفِ رُطُوبَتِهَا. وَقِيلَ: زُرْقاً عِطَاشًا وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ يَرُدُّ سَوَادَ الْعَيْنِ إِلَى الْبَيَاضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ سِنَانٌ أَزْرَقُ وَقَوْلُهُ:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ أَيِ ابْيَضَّ، وَذُكِرَتِ الْآيَتَانِ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ فَحَالَةٌ يَكُونُونَ فِيهَا زُرْقًا وَحَالَةٌ يَكُونُونَ عُمْيًا.

يَتَخافَتُونَ يَتَسَارُّونَ لِهَوْلِ الْمَطْلَعِ وَشِدَّةِ ذَهَابِ أَذْهَانِهِمْ قَدْ عَزَبَ عَنْهُمْ قَدْرَ الْمُدَّةَ الَّتِي لَبِثُوا فِيهَا إِنْ لَبِثْتُمْ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ فِي الصُّورِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَوَصْفُ مَا لَبِثُوا فِيهِ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهَا لِمَا يُعَايِنُونَ مِنَ الشَّدَائِدِ كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيَّامُ سُرُورٍ، وَأَيَّامُ السُّرُورِ قِصَارٌ أَوْ لِذِهَابِهَا عَنْهُمْ وَتَقَضِّيهَا، وَالذَّاهِبُ وَإِنْ طَالَتْ مدته قصير


(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>