للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى جِدَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَدَفْعِهِمْ مَا يَجِبُ لَكَ مِنْ تَقَدُّمِكَ عَلَيْهِمْ، لِمَا مَنَحَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَكَلَّفَكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ. مَا هُمْ بِبالِغِيهِ: أَيْ بِبَالِغِي مُوجِبِ الْكِبْرِ وَمُقْتَضِيهِ مِنْ رِيَاسَتِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْأَسُونَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَا يُؤَمِّلُونَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:

الْمَعْنَى على تكذيب إِلَّا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ عَلَيْكَ، وَمَا هُمْ بِبَالِغِي مُقْتَضِي ذَلِكَ الْكِبْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَذَلَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ مُبَالِغِي إِرَادَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ فِي الْيَهُودِ.

قَالَ مُقَاتِلٌ: عَظَّمَتِ الْيَهُودُ الدَّجَّالَ وَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَنَا يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَلَهُ سُلْطَانٌ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّجَّالَ مِنْ آيَاتِهِ، بِغَيْرِ سُلْطانٍ: أَيْ حُجَّةٍ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وَالْمُرَادُ بخلق النَّاسِ الدَّجَّالُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الْمُجَادِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَخْرُجُ صَاحِبُنَا الْمَسِيحُ بْنُ دَاوُدَ، يُرِيدُونَ الدَّجَّالَ، وَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ، وَتَسِيرُ مَعَهُ الْأَنْهَارُ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْنَا الْمُلْكُ، فسمى الله تمنيتهم ذَلِكَ كِبْرًا، وَنَفَى أَنْ يَبْلُغُوا مُتَمَنَّاهُمْ. انْتَهَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْيَهُودِ فِي زَمَانِهِ فِي مِصْرَ مُوسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ كَتَبَ رِسَالَتَهُ إِلَى يَهُودِ الْيَمَنِ أَنَّ صَاحِبَهُمْ يَظْهَرُ فِي سَنَةِ كَذَا وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. جَاءَتْ تِلْكَ السَّنَةُ وَسُنُونَ بَعْدَهَا كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِمَّا قَالَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، حَتَّى اسْتَسْلَمَ الْيَهُودُ بَعْضُ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. فَيُذْكَرُ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ التَّرَاوِيحَ وَهُمْ عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ فِي رَمَضَانَ، إِذْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا قَدِمَ مِصْرَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَوْلَةِ الْعُبَيْدِيِّينَ، وَهُمْ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِشَرِيعَةٍ، رَجَعَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَصَنَّفَ لَهُمْ تَصَانِيفَ، وَمِنْهَا: (كِتَابُ دَلَالَةِ الْحَائِرِينَ) ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ مَا اسْتَفَادَ مِنْ مُخَالَطَةِ عُلَمَاءِ الْأَنْدَلُسِ وَتَوَدُّدِهِ لَهُمْ، وَالرِّيَاسَةُ إِلَى الْآنَ بِمِصْرَ لِلْيَهُودِ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ: أَيِ الْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يَحْسُدُكَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُ وَيَقُولُونَ، الْبَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُ وَيَعْمَلُونَ، فَهُوَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ وَعَاصِمُكَ مِنْ شَرِّهِمْ.

ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَادَلَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَكَبَّرَ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ: أي أن مخلوقاته أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ خَلْقِ الْبَشَرِ، فَمَا لِأَحَدٍ يُجَادِلُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَى خَالِقِهِ. وَقَالَ الزمخشري: مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَهُوَ أصل المجادلة ومدارها، فجحدوا بخلق السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>