للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُؤْتَفِكَةَ: هِيَ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا انْقَلَبَتْ، وَمِنْهُ الْإِفْكُ، لِأَنَّهُ قَلْبُ الحق كذبا، أفكه فأئتفك. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْتَفِكَةِ: كُلُّ مَا انْقَلَبَتْ مساكنه ودبرت أَمَاكِنُهُ. أَهْوى: أَيْ خَسَفَ بِهِمْ بَعْدَ رَفْعِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، رَفَعَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَهْوَى بِهَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَعَلَهَا تَهْوِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَمْعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَهْوَى نَاصِبٌ لِلْمُؤْتَفِكَةِ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالْمُؤْتَفِكَةَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وأَهْوى جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يُوَضِّحُ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِهِمْ، أَيْ وَإِهْلَاكُ الْمُؤْتَفِكَةِ مَهْوِيًّا لَهَا. فَغَشَّاها مَا غَشَّى: فِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، لَمَّا قَلَبَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتْبِعَتْ حِجَارَةً غَشِيَتْهُمْ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ الْمُشَدَّدُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَيَكُونَ الْفَاعِلُ مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «١» .

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى: الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، وَالْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَتَتَمَارَى: تَتَشَكَّكُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ آلَاؤُهُ، وَهِيَ النِّعَمُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيهَا سَامِعٌ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ نِعَمٍ وَنِقَمٍ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا كُلِّهَا آلَاءً لِمَا فِي النِّقَمِ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ لِمَنِ اعْتَبَرَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رَبِّكَ تَّمَارَى، بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَزِرُ إِلَى قَوْلِهِ: تَتَمارى هُوَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

هَذَا نَذِيرٌ،

قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، افْتُتِحَ أَوَّلُ السُّورَةِ بِهِ، وَاخْتُتِمَ آخِرُهَا بِهِ.

وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: إِلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ، أَيْ هَذَا إِنْذَارٌ مِنَ الْإِنْذَارَاتِ السَّابِقَةِ، وَالنَّذِيرُ يَكُونُ مَصْدَرًا أَوِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أنذر، ولا يتقاسان، بَلِ الْقِيَاسُ فِي الْمَصْدَرِ إِنْذَارٌ، وَفِي اسْمِ الْفَاعِلِ مُنْذِرٌ وَالنُّذُرُ إِمَّا جَمْعٌ لِلْمَصْدَرِ، أَوْ جَمْعٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَوَصْفُ النُّذُرِ بِالْأُولَى عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ إِهْلَاكَ مَنْ تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ: هَذَا نَذِيرٌ، ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ قَرِيبُ الْوُقُوعِ فَقَالَ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ: أَيْ قَرُبَتِ الْمَوْصُوفَةُ بِالْقُرْبِ فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «٢» ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ: أَيْ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ تَكْشِفُ وَقْتَهَا وَتَعْلَمُهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَدَفْعِهِ، أَيْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَكْشِفُ خَطْبَهَا وهو لها. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي كَاشِفَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ.


(١) سورة طه: ٢٠/ ٧٨.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ١.

<<  <  ج: ص:  >  >>