للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا حَكَى تَمَادِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْكُفْرِ وَعُكُوفِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَقَوْمِ نُوحٍ، حَتَّى أَنَّهُمْ عَبَدُوا أَصْنَامًا مِثْلَ أَصْنَامِ أُولَئِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْقُرْآنِ هَادِيًا إِلَى الرُّشْدِ، وَقَدْ سَمِعَتْهُ الْعَرَبُ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَكْثَرُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْجِنِّ إِثْرَ سُورَةِ نُوحٍ، تَبْكِيتًا لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي كونهم تباطؤا عَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ كَانَتِ الجن خيرا لهم وَأَقْبَلَ لِلْإِيمَانِ، هَذَا وَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ فَبِنَفْسِ مَا سَمِعُوا الْقُرْآنِ اسْتَعْظَمُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِلْوَقْتِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ أُوحِيَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْعَتَكِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو أُنَاسٍ جُوَيَّةُ بن عائذ الْأَسَدِيُّ: وَحَى ثُلَاثِيًّا، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَحَى إِلَيْهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجُوَيَّةُ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: أَحَى بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا فِي وَعَدَ أَعَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الْمُطْلَقِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ قَدْ تَكُونُ أَوَّلًا وَحَشْوًا وَآخِرًا، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَطْلَقَهُ الْمَازِنِيُّ فِي الْمَكْسُورِ أَيْضًا، كِإِشَاحٍ وَإِسَادَةٍ وَإِعَاءِ أَخِيهِ. انْتَهَى، وَهَذَا تَكْثِيرٌ وَتَبَجُّحٌ. وَكَانَ يَذْكُرُ هَذَا فِي وِعاءِ أَخِيهِ «١» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَعَنِ الْمَازِنِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ كَمَا قَالَ، وَالْآخَرُ: قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ.


(١) سورة يوسف: ١٢/ ٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>