للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِما

، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَطَّوَّفَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَشَهْرٌ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ لَا، نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «١» ؟ وَقَوْلُهُ:

وَمَا أَلُومُ البيض أن لا تسخرا ... إِذَا رَأَيْنَ الشَّمَطَ الْقَفَنْدَرَا

فَتَتَّحِدُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الشَّيْءِ هُوَ رَفْعٌ فِي تَرْكِهِ، إِذْ هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا «٢» . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا عَلَى بَابِهَا لِلنَّفْيِ، وَتَكُونُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِيهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الطَّوَافِ نَصًّا، وَفِي هَذِهِ رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي التَّرْكِ نَصًّا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَيْسَ الطَّوَافُ بِهِمَا وَاجِبًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ، فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، أَوْ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ، أَوْ إِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ يَنْسَخُ هَذَا النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ لِعُرْوَةَ حِينَ قَالَ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، فَمَا نَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا؟ فَقَالَتْ:

يَا عُرَيَّةُ، كَلَّا، لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. كَلَامٌ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الطَّوَافِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِبَاحَةُ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا كُنْتَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَمَنْ سَعَى بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ صُعُودٍ عَلَيْهِمَا، لَمْ يُعَدَّ طَائِفًا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مُطْلَقِ الطَّوَافِ، لَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلَا عَدَدٍ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الرَّمَلَ فِي السَّعْيِ سُنَةٌ.

وَرَوَى عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ سَعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَكَانَ عُمَرُ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إِنْ مَشَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى. وَسَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.

فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَيُحْتَمَلَ مَشْرُوعِيَّتُهُ دَائِمًا، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ. وَالرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حنيفة


(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>