للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفاً لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. وقال بعض الناس: إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، وهو قول الشافعي، وقال أصحابنا: ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل. وليس في هذه الآية دليل، أن له أن يأخذ الدية بكره منه، وفيها دليل أن له أن يقبل الدية وإذا رضي القاتل وَاصْطَلَحَا على ذلك.

ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ، يعني أن يقتل بعد ما يأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجع. وقال قتادة: يقتل ولا يتقبل منه الدية إذا اعتدى، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أَعْفِي عَنْ أحَدٍ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» . ولكن معناه عندنا: أنه إذا طلب الولي القتل، فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه، لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول، لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني. ثم قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بقاء، لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل. وهذا كما قال القائل:

أَبْلِغْ أَبَا مَاِلكٍ عَنِّي مُغَلْغَلَة ... وَفِي العِقَابِ حَيَاةٌ بَيْنَ أَقْوَام

وهذا معنى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ، يعني يا ذوي العقول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل مخافة القصاص.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ، أي فرض عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً، أي مالاً.

الخير في القرآن على وجوه، أحدها: المال كقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وقوله: مآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ٢١٥] ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ٢٧٢] أي المال. والثاني: الإيمان كقوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً [الأنفال: ٢٣] أي إيماناً، وكقوله تعالى: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: ٣١] . والثالث الخير: الفضل كقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: ١٠٩ و ١١٨] . والرابع: العافية كقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام: ١٧] وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ [يونس: ١٠٧] . والخامس: الأجر كقوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ [الحج: ٣٦] أي أجر.

<<  <  ج: ص:  >  >>