للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسي. قال: فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا نحن الثلاثة. قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد، وتنكر لنا الناس، حتى ما هم بالذين نعرفهم، وتنكرت لنا الأرض، حتى ما هي بالتي نعرف.

وكنت أقوى أصحابي، فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم عليه وأقول: هل حرك شفتيه بالسلام؟. فإذا قمت أصلي إلى سارية، فأقبلت على صلاتي، نظر إلي بمؤخر عينيه، فإذا نظرت إليه، أعرض عني. واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار، ولا يطلعان رؤوسهما. فبينما أنا أطوف بالسوق، إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فانطلق الناس يشيرون إليّ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسيك. فقلت: هذا أيضاً من البلاء، يعني: الدعوة إلى الكفرَ، فسجَّرْت لها التنور فأحرقتها فيه.

فلما مضت أربعون ليلة، إذا رسول من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أتاني وقال: «اعْتَزِل امْرَأَتَكَ» .

فقلت: أطلقها؟ فقال: «لا، ولكن لا تَقْرَبْهَا» . فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا نبي الله إن هلالاً شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: «نَعَمْ، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ» . فقالت: يا نبي الله، والله ما به من حركة من شيء، يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان. قال كعب:

فلما طال علي البلاء، اقتحمت على أبي قتادة حائطه، وهو ابن عمي، فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة، أتعلم أني أحب الله ورسولهُ؟ فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ حتى عاودته ثلاث مرات قال: الله تعالى ورسوله أعلم، فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجاً، حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس عن كلامنا، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر، ثم جلست، وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى: ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت إن الله تعالى قد جاء بالفرج. ثم جاء رجل يركب على فرس يبشرني، فكان الصوت أسرع من فرسه، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين، وانطلقت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وجعل الأنصار يستقبلونني فوجاً فوجاً ويهنئونني ويبشرونني. ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله، قام وتلقاني بالتهنئة، فما نسيت ذلك منه.

وانطلقت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا بشّر بالأمر، استنار وجهه كالقمر، فجئت فجلست بين يديه فقال: «أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ» . فقلت: يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله؟

قال: «بل من عند الله» ثُمَّ تلا قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>