للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك الشراب المسمى بالرحيق ليس ماء عاديا مثل ما يخلط أهل الدنيا شرابهم البدي ليخفف نتنه وحدته، بل يشاب «مِنْ تَسْنِيمٍ» ٢٧ علم لماء عين بالجنة على غاية من الصفاء والحلاوة والبهاء والرقة، خلقه الله تعالى خاصة لمزج شراب أهل الجنة الذي هو من ذلك النوع. روي عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة بن اليمان أنها عين من عيون إحدى الجنان العالية. وهو مصدر مأخوذ من سنم إذا ارتفع ومنه سنام البعير. وهذه العين هي ارفع شراب أهل الجنة، ومن خواصها أنها تأتي أهلها الذين يشربون منها أو يمزجون شرابهم منها من جهة الفوق، لأنها تجري بالهواء بلا أخدود، ماؤها كريم لكونه «عَيْناً» حال من تسنيم، وضح يجيء الحال منه مع أنه جامد، لتأويله بمشتق، كجارية مثلا، أو لأنه وصف بقوله تعالى «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» ٢٨ من الله تعالى الدانون عنده بتفضله عليهم لما أسلفوه من أعمال طيبة، وهذه هي المدامة التي تواصى بها أهل الذوق من أهل الحقيقة الكاملين، وقد أطنبوا في مدحها ووصفها، ولم أقف على أفضل من أقوال ابن الفارض رحمه الله فيها بقصيدته الرنانة التي لم يسبق بمثلها والله أعلم وأولها:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

وآخرها:

على نفسه قليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم

وأحسن بيت فيها قوله فيها:

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم

تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم

وكل بيت فيها أحسن من الآخر وأبلغ وأفصح، وفيها من أنواع البديع ما لا يستغني عنه البديع. هذا وقدمنا في الآية ٤٦ من الصافات ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من عامة الخلق وخاصة الرؤساء منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشباههم في كل عصر «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» كعمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وشبههم من فقراء المسلمين الصادقين المخلصين في الدنيا «يَضْحَكُونَ» ٢٩ منهم لمّا يرونهم

<<  <  ج: ص:  >  >>