للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الغائبين في الغزو من المؤمنين الخلص، فكانوا يقولون: تم كيت وكيت، فكانت تنخلع قلوب أقارب المؤمنين من سوء ما يشاع عن أهليهم، وكان يكاد يؤثّر ذلك فيهم لولا أن الكذب حبله غير طويل، فلم يلبث الغائبون أن يعودوا منصورين على خير ما يكون النصر، ويفتضح أمر أولئك الذين لا تخلو منهم أمة، أولئك دعاة التردد والهزيمة، ضعفاء النفوس، لا تقوى نفوسهم على مجالدة أعدائهم، فيلجؤون إلى مقالة السوء يرددونها، يرجون من وراء ذلك الفتّ في عضد خصومهم، ولقد كان اليهود والمنافقون يلجأون إلى هذه الحال دائما، فكانوا يتناجون دون المؤمنين.

وكلّما مروا بهم يتغامزون، فلما كثر ذلك، شكا منهم المؤمنون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم عن ذلك، ولكن الضعيف دائما يجد في هذا التناجي سلوة يستر بها ضعفه، فلم ينتهوا، فأنزل الله فيهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ.

وكانت هذه الحال حالا ذميمة مؤذية، فنهى المؤمنين أن يفعلوا هذا، فيكون فيهم هذا الصنف من الناس، فهم لم يكن منهم هذا التناجي المذموم حتى ينهوا عنه، إنما نهوا عنه تعريضا بأولئك الذين لا يعيشون إلّا في الظلام، ويصطادون في الماء العكر، أرأيت الآية التي سقنا لك فيهم، وهذا الآية كيف نهي المؤمنون فيها أن يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الذي كان منهم، ثم هو تحذير للمؤمنين أن يفعلوا فعلهم، فيستحقوا ما استحق أولئك من العاقبة.

وقيل: بل الخطاب للمنافقين، وسمّاهم مؤمنين باعتبار ثوبهم الذي يظهرون فيه، والظاهر الأول، فإنّ الآية نهت المؤمنين أن يتناجوا بالإثم والعدوان، أي بما هو إثم في ذاته، ثم هو عدوان على منصب الرسالة، إذ يجعل الناس ينفضّون من حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمرتهم إذا كان لا بدّ لهم من التناجي أن يتناجوا بما هو برّ وخير، وبما هو وقاية لهم، وحفظ من عذاب الله، ثم أمرتهم بأن يتقوا الله الذي إليه يحشرون، فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه، لا تخفى عليه منه خافية، ثم قال الله في تعليل ما تقدّم إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا.

وأسندت النجوى إلى الشيطان باعتبار أنّه الذي يوسوس بها ويزينها للناس فيرتكبونها، وغايته منه إدخاله الحزن على الذين آمنوا، ولكنّهم ما داموا مؤمنين فلن يضرّهم منه شيء وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ واسم ليس إمّا الشيطان، وإمّا التناجي، وما دام الأمر كلّه لله، فإن قدّر الله مكروها فهو لا بدّ كائن، وإن أراد خيرا فلا رادّ لفضله، يصيب به من يشاء.

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا ما يكون من نجوى الشيطان، لأن الذي

<<  <   >  >>