للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أَيْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلًا فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنت رواحة:

لا أرضى حتى تشهد عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ «أُكَلَّ وَلَدِكَ، نحلت مثله؟» قال: لا، فقال «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ» . وَقَالَ «إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي فرد تلك الصدقة «١» .

وقوله تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أَيْ لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا، وَلِهَذَا قَالَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ، وَدَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النُّورِ: ٢٨] .

وَقَوْلُهُ: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَكَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أَيْ لِذُنُوبِهِمْ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَهَا أَسْبَابًا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ فَالْكُلُّ مِنْهُ وَلَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي لَا يَجُورُ فِيهِ، بَلْ هُوَ الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ «٢» يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: من


(١) صحيح البخاري (هبة باب ١٢) وصحيح مسلم (هبات حديث ٩ و ١٠ و ١٧) ، وسنن الترمذي (أحكام باب ٣٠) . [.....]
(٢) العضاه: كل شجر له شوك، صغر أو كبر. واحدته: عضاهة.

<<  <  ج: ص:  >  >>