للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ بِتَكْلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها فَلَمَّا تَمَّ الْمِيقَاتُ اسْتَاكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكْمِلَ بِعَشْرٍ أَرْبَعِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشَرُ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره.

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: ٣] فلما تم الميقات وعزم مُوسَى عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الطُّورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠] الآية فحينئذ استخلف موسى عليه السلام على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ وَإِلَّا فَهَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]]

وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ لِمِيقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَقَدْ أَشْكَلَ حَرْفُ لَنْ هَاهُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا سَنُورِدُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْكُفَّارِ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥] وَقِيلَ إِنَّهَا لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الرؤيا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: ١٠٣] وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة إن الله تعالى قال لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ» «١» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.


(١) تدهده: أي تهدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>