للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة هود (١١) : آية ١٧]]

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى فِطْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ: ٣٠] الآية وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جدعاء؟» «١» الحديث. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ به سلطانا» «٢» وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ» «٣» الْحَدِيثَ، فَالْمُؤْمِنُ بَاقٍ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أَيْ وَجَاءَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُكَمَّلَةِ الْمُعَظَّمَةِ الْمُخْتَتَمَةِ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ والسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام.

وعن علي رضي الله عنه وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بَلَّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدٌ إِلَى الْأُمَّةِ، وَقِيلَ هُوَ عَلِيٌّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ قَائِلٌ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَهُ مِنَ الْفِطْرَةِ مَا يَشْهَدُ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَالتَّفَاصِيلُ تُؤْخَذُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةُ تَصْدُقُهَا وَتُؤْمِنُ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ بلغه جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغه النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمَّتِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ومن قبل الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ إِماماً وَرَحْمَةً أي أنزله اللَّهُ تَعَالَى إِلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ إِمَامًا لَهُمْ وَقُدْوَةً يَقْتَدُونَ بِهَا وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ فَمَنْ آمَنَ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أَيْ وَمَنْ كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم


(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٩، ومسلم في القدر حديث ٢٢، ٢٤.
(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.
(٣) أخرجه أحمد في المسند ٣/ ٣٥٣، ٤٣٥، ٤/ ٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>