للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَفَرِحَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا أوتوا من الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا، كَمَا قَالَ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥- ٥٦] ثُمَّ حَقَّرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ادَّخَرَهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ، كَمَا قَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاءِ: ٧٧] . وَقَالَ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: ١٦- ١٧] .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَني فِهْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ» وأشار بالسبابة، رواه مُسْلِمٌ «٢» فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، وَالْأَسَكُّ الصَّغِيرُ الْأُذُنَيْنِ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لِلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا على أهله حين ألقوه» «٣» .

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ الْمُشْرِكِينَ لَوْلا أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، كقولهم فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥] . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِجَابَةٍ مَا سَأَلُوا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ يَنْبُوعًا، وَأَنْ يُزِيحَ الْجِبَالَ مِنْ حَوْلِ مَكَّةَ، فَيَصِيرُ مَكَانَهَا مُرُوجٌ وَبَسَاتِينُ: إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطَيْتُهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَفَرُوا أُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: «بَلْ تَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ» «٤» .

وَلِهَذَا قَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أَيْ هُوَ الْمُضِلُّ وَالْهَادِي سَوَاءٌ بَعَثَ الرَّسُولَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مَا اقْتَرَحُوا أَوْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ لَيْسَ مَنُوطًا بِذَلِكَ وَلَا عَدَمِهِ، كَمَا قَالَ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُسَ:

١٠١] وقال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: ٩٦- ٩٧] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى


(١) المسند ٤/ ٢٢٨، ٢٢٩.
(٢) كتاب الجنة حديث ٥٥.
(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢، ومالك في الطهارة حديث ٧٣، وأحمد في المسند ٣/ ٣٦٥.
(٤) أخرجه أحمد في المسند ١/ ٢٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>