للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَلْ يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين، بشيرا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل فيه اعوجاجا وَلَا مَيْلًا، بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا وَلِهَذَا قَالَ: قَيِّماً أَيْ مُسْتَقِيمًا لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أَيْ لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ يُنْذِرُهُ بَأْسًا شَدِيدًا عُقُوبَةً عَاجِلَةً في الدنيا وآجلة في الأخرى مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً أَيْ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جَمِيلَةً ماكِثِينَ فِيهِ فِي ثَوَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهِ أَبَداً دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ ولا انقضاء.

وقوله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الذي افتروه وائتفكوه وَلا لِآبائِهِمْ أي لأسلافهم كَبُرَتْ كَلِمَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ تَقْدِيرُهُ كَبُرَتْ كَلِمَتُهُمْ هَذِهِ كَلِمَةً. وَقِيلَ: عَلَى التَّعَجُّبِ تَقْدِيرُهُ أَعْظِمْ بِكَلِمَتِهِمْ كَلِمَةً، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ بِزَيْدٍ رَجُلًا، قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ: كَبُرَتْ كَلِمَةٌ، كَمَا يُقَالُ عَظُمَ قَوْلُكَ وَكَبُرَ شَأْنُكَ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَظْهَرُ، فَإِنَّ هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ:

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أَيْ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ سِوَى قَوْلِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هذا، قال: فقالوا لَهُمْ سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول تروا فِيهِ رَأْيَكُمْ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ؟ وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عن أمور فأخبروهم بها، فجاؤوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>