وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ، وسار بأهله قيل:
قاصدا بلاد مصر بعد ما طَالَتِ الْغَيْبَةُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ، فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَكَانَتْ لَيْلَةً شَاتِيَةً، وَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ شِعَابٍ وَجِبَالٍ فِي بَرْدٍ وَشِتَاءٍ وَسَحَابٍ وَظَلَامٍ وَضَبَابٍ، وَجَعَلَ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ مَعَهُ لِيُوَرِّيَ نَارًا كَمَا جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدَحُ شَيْئًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَرَرٌ وَلَا شَيْءٌ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ نَارًا، أَيْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَيْ شِهَابٍ مِنْ نَارٍ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [الْقَصَصِ: ٢٩] وَهِيَ الْجَمْرُ الَّذِي مَعَهُ لَهَبٌ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [الْقَصَصِ: ٢٩] دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَرْدِ.
وَقَوْلُهُ: بِقَبَسٍ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أَيْ مَنْ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَاهَ عَنِ الطَّرِيقِ، كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَعْوَرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً قَالَ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَكَانُوا شَاتِّينَ وَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَى النَّارَ قَالَ: إِنْ لَمْ أجد أحدا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١ الى ١٦]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥)
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
يَقُولُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَتاها أَيِ النَّارَ، وَاقْتَرَبَ مِنْهَا نُودِيَ يَا مُوسى وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [الْقَصَصِ: ٣٠] وَقَالَ هَاهُنَا إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أَيِ الَّذِي يُكَلِّمُكَ وَيُخَاطِبُكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو أَيُّوبَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ، وَقِيلَ: إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ، وَقِيلَ: لِيَطَأَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ مُنْتَعِلٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: طُوىً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفَ بَيَانٍ، وَقِيلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْوَطْءِ بِقَدَمَيْهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ، وَطَوَى لَهُ الْبَرَكَةَ وَكُرِّرَتْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَقَوْلِهِ: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النَّازِعَاتِ: ١٦] . وَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ كَقَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٤] أَيْ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ فِي زمانه، وقد قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ يَا مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ خَصَصْتُكَ بِالتَّكْلِيمِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ؟ قال: لا، قال: لأني لم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.patreon.com/shamela4