للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا «١»

قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً الذِي فِي كُتُبِهِمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ وَأَخْبَارُهُ، وَقَدْ أُمِرُوا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية، أي طرح طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ تَرَكُوهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا أَرَادُوا كَيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أَرْوَانَ «٢» ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ لَعَنَهُ اللَّهُ وقبحه، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَالَ السُّدِّيُّ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ، فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ، فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ، وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا عِلْمَهُمْ وَكَتَمُوهُ وَجَحَدُوا بِهِ.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، وَقَامَ النَّاسُ عَلَى الدين كما كان، وأن سُلَيْمَانَ ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدَثَانَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى سليمان فأخفاه عَنَّا، فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، وَهِيَ الْمَعَازِفُ وَاللَّعِبُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به. قال: فأكفره جهال


(١) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ١٠٦ وتاج العروس (عنن) والطبري ١/ ٤٨٨.
(٢) أروان: اسم بئر بالمدينة. وقد جاء فيه «ذروان» و «ذو أروان» . والمشاقة: الشعر الذي يسقط في الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. وجفّ الطلع: الغشاء الذي يكون فوقه. والراعوثة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت، تكون ناتئة فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقّي عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>