للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أَيْ هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:

إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الكافر جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ:

وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التَّحْرِيمِ: ١٢] أَيْ أَيْقَنَتْ أَنَّ ما كان، إنما هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أَيْ لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ.

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا في القيام بشرط الْإِعَطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الذين يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عز وجل؟ قال: «لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٢» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مالك بن مغول بنحوه، وقال «لا يا ابنة الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يخافون ألا يتقبل منهم أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وقال التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَدْ قَرَأَ آخَرُونَ هَذِهِ الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَيْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأها كَذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا صخر بن جويرية، حدثنا إسماعيل المكي، حدثنا أَبُو خَلَفٍ مَوْلَى بَنِي جُمَحٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَاصِمٍ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَوْ تُلِمَّ بِنَا؟ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَمَلَّكِ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ؟ قال: جئت لأسألك عن آية من كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها؟ قال: أية آية؟ قال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا والذين يأتون مَا آتَوْا فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: والذي نفسي بيده


(١) المسند ٦/ ١٥٩، ٢٠٥.
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٢٣، في الترجمة.
(٣) المسند ٦/ ٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>