للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من المشركين والمنكرين للبعث كقوم تبع، وهم سبأ، حيث أهلكهم الله عز وجل وَخَرَّبَ بِلَادَهُمْ وَشَرَّدَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَفَرَّقَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَهِيَ مُصَدَّرَةٌ بِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَعَادِ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا شَبَّهَهُمْ بِأُولَئِكَ وَقَدْ كَانُوا عَرَبًا مِنْ قَحْطَانَ، كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَبٌ مِنْ عَدْنَانَ، وَقَدْ كَانَتْ حِمْيَرُ وَهُمْ سَبَأٌ كُلَّمَا مَلَكَ فِيهِمْ رَجُلٌ سَمَّوْهُ تُبَّعًا، كَمَا يُقَالُ كِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَقَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَفِرْعَوْنُ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ.

وَلَكِنِ اتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ تَبَابِعَتِهِمْ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ وَسَارَ فِي الْبِلَادِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَاشْتَدَّ مُلْكُهُ وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ وَجَيْشُهُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ وَبِلَادُهُ وَكَثُرَتْ رَعَايَاهُ وَهُوَ الَّذِي مَصَّرَ الْحِيرَةَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادَ قِتَالَ أَهْلِهَا فَمَانَعُوهُ وَقَاتَلُوهُ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلُوا يَقْرُونَهُ «١» بِاللَّيْلِ فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ كَانَا قَدْ نَصَحَاهُ وَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ، فَإِنَّهَا مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَرَجَعَ عَنْهَا وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِمَكَّةَ أَرَادَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ فَنَهَيَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ عَلَى يَدَيْ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَعَظَّمَهَا وَطَافَ بِهَا وَكَسَاهَا الْمِلَاءَ «٢» وَالْوَصَائِلَ «٣» وَالْحَبِيرَ «٤» ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى التَّهَوُّدِ مَعَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ دِينُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام فِيهِ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْهِدَايَةِ قَبْلَ بَعْثَةِ المسيح عليه الصلاة والسلام، فَتَهَوَّدَ مَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ السِّيرَةُ «٥» .

وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً أَوْرَدَ فِيهَا أَشْيَاءَ كثيرة مما ذكرنا ومما لَمْ نَذْكُرْ. وَذَكَرَ أَنَّهُ مَلَكَ دِمَشْقَ وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَعْرَضَ الْخَيْلَ صُفَّتْ لَهُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْيَمَنِ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَدْرِي الْحُدُودُ طَهَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي تُبَّعٌ لَعِينًا كَانَ أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا كان أم ملكا؟» وقال غيره «عزيز أكان نبيا أم لا؟» «٦» .

وهكذا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ الظَّهْرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:


(١) يقرونه: أي يضيفونه
(٢) الملاء: واحدة ملاءة: وهي الملحفة.
(٣) الوصائل: ثياب يمنية يوصل بعضها ببعض.
(٤) الحبير من الثياب: ما كان موشيا مخططا.
(٥) السيرة النبوية لابن هشام ١/ ١٩، ٢٨.
(٦) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>