للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، أَيْ فِيمَا يُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّامِغَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ أَيْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فرارا مِنَ الْوَبَاءِ، طَلَبًا لِطُولِ الْحَيَاةِ، فَعُومِلُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، وَجَاءَهُمُ الْمَوْتُ سَرِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» :

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيد بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ، لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان بأرض وأنتم بها فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ» فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزهري به بطريق أُخْرَى لِبَعْضِهِ.

قَالَ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَيَزِيدُ الْعَمِّيُّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَ عُمَرَ وَهُوَ فِي الشَّامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ هَذَا السَّقَمَ عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا» قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ مِنَ الشَّامِ، وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ كَمَا أَنَّ الْحَذَرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، كَذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ الجهاد وتجنبه، لا يقرب أجلا ولا يبعده، بَلِ الْأَجَلُ الْمَحْتُومُ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ مُقَدَّرٌ مُقَنَّنٌ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٨] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ

[النِّسَاءِ: ٧٧- ٧٨] وَرُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَمُقَدَّمِ الْعَسَاكِرِ، وَحَامِي حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَسَيْفِ اللَّهِ الْمَسْلُولِ عَلَى أَعْدَائِهِ: أَبِي سُلَيْمَانَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ: لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا. وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ رَمْيَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ أَوْ ضَرْبَةٌ وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أعين الجبناء- يعني أنه يتألم


(١) مسند أحمد (ج ١ ص ١٩٤) .
(٢) مسند أحمد (ج ١ ص ١٩٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>