للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ- إلى قوله- نادِمِينَ [الْمَائِدَةِ: ٥٢] وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بهذا الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ، يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)

قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: ٩] ، وَقَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

ولا شك أن الله لَا يُخَادَعُ، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لهم عنده، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: ١٨] ، وقوله: هُوَ خادِعُهُمْ

أَيْ هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الدنيا، وكذلك يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْحَدِيدِ: ١٣] وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَمَّعَ سمّع الله به، ومن رأيا رأيا اللَّهُ بِهِ» «١» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إِنِ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَبْدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَيُعْدَلُ بِهِ إِلَى النَّارِ» .

عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

الآية، هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الصَّلَاةُ إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا، قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ، وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا كَمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَسْلَانُ، وَلَكِنْ يَقُومُ إِلَيْهَا طَلْقَ الْوَجْهِ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ شديد الفرح، فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يَغْفِرُ لَهُ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

وَرَوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا


(١) سمّع: تباهي بعمله وأظهره. وسمّع الله به: فضحه يوم القيامة. وراءى الله به: عرّف خلقه أن هذا مراء مزوّر.

<<  <  ج: ص:  >  >>