للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عدوانا وظلما، أي من غير قصاص فى قتل، أو سعى بفساد فى الأرض- فكأنما قتل الناس جميعا، «وَمَنْ أَحْياها» أي أحيا نفسا إنسانية، بأن كفّ يده عن العدوان عليها، أو دفع عنها يدا معتدية عليها- فكأنه أحيا الناس جميعا.. ذلك أن الإنسان يمثّل الإنسانية كلها.. إذ كان خلقها جميعا من نفس واحدة، كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» (١: النساء) .. وفى كل إنسان هذه النفخة المقدسة التي كانت منها الإنسانية كلها، فمن قتل إنسانا، فقد أخمد تلك الشعلة المقدسة التي هى أصل الحياة، ومن أحياها، أي تركها حيّة فلم يعرض لها بسوء، فكأنما أحيا الإنسانية كلها، وترك شعلتها المقدسة متّقدة..

وفى هذا الحكم الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى على بنى إسرائيل، تغليظ لجريمة القتل، وتشنيع عليها، وتهويل لها، ووضع القاتل أو من تحدّثه نفسه بالقتل أمام تلك الجريمة المفزعة، التي يرى فيها الإنسانية كلها وهى جثث هامدة، وأشلاء ممزقة بين يديه.. حتى أهله وأقرب الأقربين إليه من آباء وأبناء..

إنهم جميعا من قتلاه.. بل إنه هو نفسه فيمن قتل بيده.. إذ كيف يحيا وحده فى هذا العالم الموحش، وقد خلا من وجه الإنسان؟

وفى هذا الموقف يطلّ علينا من بعيد هذا الشبح المخيف لابن آدم الذي قتل أخاه، فاستولت عليه الوحشة القاتلة بعده، وأصبح غريبا فى هذا العالم، لا يجد لحياته وجودا على هذه الأرض، حتى ليذهل عن كل شىء وتضيع من نفسه معالم المعرفة، التي لا تتحرك ولا تعمل إلا فى مواجهة الإنسان للإنسان..

ولهذا كان الغراب أقدر على الحياة منه، وأصلح للعمل فيها، لأنه يعيش بين جنسه، مع فطرته، التي تستجيب لحياة الجماعة وتعمل معها.

والسؤال هنا: لم كان هذا الحكم واقعا على بنى إسرائيل وحدهم؟

<<  <  ج: ص:  >  >>