للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجوه منها: أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه. ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته. ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم. ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ «صوته خفات وسمعه تارات» ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفيا لنهاية كبره. ثم شرع في حكاية ندائه قائلا: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إلى قوله:

وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال علماء المعاني: في الآية لطائف وذلك أصل الكلام: يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار: إني وهنت العظام من بدني لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاما واهنة عندك، فإذا قلت: «من بدني» فقد فصلت، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام، ثم لطلب شمول العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب رأسي. ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل اشْتَعَلَ بدل «انتشر» فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي «اشتعل رأسي شيبا» . وكونها أبلغ من وجهات منها:

إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت: «اشتعل بيتي نارا» مكان «اشتعل النار في بيتي» . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز، ومنها تنكير شَيْباً للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي «اشتعل الرأس مني شيبا» لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ثم ترك لفظ «مني» لسبق ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال «رب» بحذف حرف

<<  <  ج: ص:  >  >>