للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا وأقول: إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، والحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة: ١٦] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان، وإذا حصل الشهود فلا بد له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا» ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ كقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ [الآية: ١٤٠] وقد مر تحقيقه في «آل عمران» . والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فليرين الله وليظهرن الله. وقيل: فليميزن، وجوز جار الله أن يكون وعدا ووعيدا كأنه قال: وليبينن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي:

في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، وقال في حق الآخرين وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: ١١٩] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إلخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال: ٥٩] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال.

ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ والمخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة والتقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، وبئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف

<<  <  ج: ص:  >  >>