للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا «كم» للتكثير، أي: كَمْ تَرَكَ هؤلاءِ المُغْتَرُّونَ من كثرة الجنَّات والعيونِ، فَرُوِيَ أَنَّ الجناتِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً/ ضِفَّتَيِ النيلِ جميعاً من رشيد إلى أُسْوَانَ، وأَمَّا العيونُ فيحتملُ أَنَّه أراد الخُلْجَانَ، فشبهها بالعيون، ويحتمل أَنَّها كانت ونَضِبَتْ، ذكر الطُّرْطُوشِيُّ في «سِرَاجِ الملوك» له، قال: قال أبو عبد اللَّه بن حَمْدُونَ: كنت مع المُتَوَكِّلِ لما خرج إلى دمشقَ، فركِبَ يوماً إلى رُصَافَةِ هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قُصُورِها، ثم خرج، فنظر إلى دَيْرٍ هناك قديمٍ حَسَنِ البناءِ بين مزارعَ وأشجارٍ، فدخله، فبينما هو يطوفُ به إذ بَصُرَ برُقْعَةٍ قد أُلْصِقَتْ في صدره فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوبٌ هذه الأبياتُ: [الطويل]

أَيَا مَنْزِلاً بالدَّيْرِ أَصْبَحَ خَالِياً ... تَلاَعَبُ فِيهِ شَمْأَلٌ وَدَبُورُ

كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بِيضٌ أَوانِسٌ ... وَلَمْ تَتَبَخْتَرْ في قِبَابِكَ حُورُ

وَأَبْنَاءُ أَمْلاَكٍ غَوَاشِمُ سَادَةٌ ... صَغِيرُهُمُو عِنْدَ الأَنَامِ كَبِيرُ

إذَا لَبِسُوا أَدْرَاعَهُمْ فَعَوَابِس ... وَإنْ لَبِسُوا تِيجَانَهُمْ فَبُدُورُ

على أَنَّهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ ضَرَاغِمٌ ... وَأَنَّهُمُو يَوْمَ النَّوَالِ بُحُورُ

لَيَالِي هِشَامٌ بالرُّصَافَةِ قَاطِنٌ ... وَفِيكَ ابنه يَا دَيْرُ وَهْوَ أَمِيرُ

إذِ الْعَيْشُ غَضٌّ وَالخِلاَفَةُ لَذَّةٌ ... وَأَنْتَ طَرُوبٌ وَالزَّمَانُ غَرِيرُ

وَرَوْضُكَ مُرْتَادٌ وَنَوْرُكَ مُزْهِرٌ ... وَعَيْشُ بَنِي مَرْوَانَ فِيكَ نَضِيرُ

بلى فَسَقَاكَ الْغَيْثُ صَوْبَ سَحَائِب ... عَلَيْكَ لَهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ بُكُورُ

تَذَكَّرْتُ قَوْمِي فِيكُمَا فَبَكَيْتُهُمْ ... بِشَجْوٍ وَمِثْلِي بِالْبُكَاءِ جَدِيرُ

فَعَزَّيْتُ نَفْسِي وَهْيَ نَفْسٌ إذَا جرى ... لَهَا ذِكْرُ قَوْمِي- أَنَّةٌ وَزَفِيرُ

لعلّ زمانا جار يوما عليهم و ... لَهُمْ بِالَّذِي تَهْوَى النُّفُوسُ- يَدُورُ

فَيَفْرَحَ مَحْزُونٌ وَيَنْعَمَ بَائِسٌ ... وَيُطْلَقَ مِنْ ضِيقِ الوَثَاقِ أَسِيرُ

رُوَيْدَكَ إنَّ/ الدَّهْرَ يَتْبَعُهُ غَدٌ ... وَإنَّ صُرُوفَ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ

فلما قرأها المتوكِّل، ارتاع، ثم دعا صاحب الدَّيْرِ، فسأله عَمَّن كتبها، فقال: لا عِلْمَ لي به، وانصرف، انتهى، وفي هذا وشبهه عِبْرَة لأولِي البصائر المستَيْقِظِينَ، اللهم، لا تجعلْنَا مِمَّنْ اغتر بزَخَارِفِ هذه الدارِ!!.

[من الطويل]

<<  <  ج: ص:  >  >>