للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغاية عند التّشاحّ «١» ، والْقِصاصُ: مأخوذ من: قَصِّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.


ينظر: «الصحاح» (٣/ ١٠٥٢) ، و «القاموس المحيط» (٢/ ٣٢٤) ، و «المصباح المنير» (٢/ ٧٧٨) ، و «المغرب» (٢/ ١٨٢) .
وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه، وأخذ كل يدافع عن فكرته، ويحاجج عن رأيه، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة، وقالوا: إنها غير صالحة لهذا الزمن، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي، وتقدموا في الحضارة.
كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام، ولكن للاعتداء فيها يده المثمرة، وللإسراف فيها ضرره البالغ، فحد الإسلام من غلوائها، وقصر من عدوانها، ومنع الإسراف منها. فقال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسرا: ٣٣] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
وقال عز من قائل: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...
[المائدة: ٤٥] الآية، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: ٤٥] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث، وعركوا الأمور، ودرسوا طبائع النفوس البشرية، ونزعاتها وغرائزها، فهداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة، لإنتاج الغاية المقصودة، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس، ودرء العدوان والبغي، وإنقاذ كثيرين من الهلاك، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكمة البالغة، وقدروها حق قدرها، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.
وأمكننا الآن أن نقول: إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: ٤٥] فهو في غاية الحكمة والعدالة إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف، وشوه خلقته، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله، أو شرا يصيبه، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عدوه، وتشويهه ما دامت القوة في يده، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك، انكمش وارتدع، وسلموا جميعا من الشر.
(١) يقال: هما يتشاحّان على أمر: إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته ... ، وتشاحّ الخصمان في الجدل كذلك. ينظر: «لسان العرب» (٢٢٠٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>