للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا الجاحد أوَّل خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة؟! فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ يعني: المكذِّبين بالبعث وَالشَّياطِينَ أي: مع الشياطين، وذلك أن كل كافر يُحشَر مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ قال مقاتل: أي: في جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخلَه، تقول: جلس القوم حول البيت: إِذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل: يجثون حولها قبل أن يدخلوها. فأما قوله: جِثِيًّا فقال الزجاج: هو جمع جاثٍ، مثل قاعدٍ وقعودٍ، وهو منصوب على الحال، والأصل ضم الجيم، وجاء كسرها إِتباعاً لكسرة الثاء. وللمفسرين في معناه خمسة أقوال: أحدها: قعوداً، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: جماعات جماعات، وروي عن ابن عباس أيضاً. فعلى هذا هو جمع جثْوة وهي المجموع من التراب والحجارة. والثالث: جثيّاً على الرُّكَب، قاله الحسن، ومجاهد والزجاج. والرابع:

قياماً، قاله أبو مالك. والخامس: قياماً على رُكَبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم.

قوله تعالى: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر جُرْماً، والرؤوس القادة في الشرِّ. قال الزجاج: وفي رفع «أَيُّهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل «لننزعنّ» شيئا، وهذا قول يونس. والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل، واختاره الزجاج، وقال: التأويل: لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال: أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد:

وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم

أي: أبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محرم.

والثالث: أنّ «أيّهم» مبنية على الضمّ، لأنها خالفت أخواتها، فالمعنى: أيُّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول: اضرب أيُّهم أفضل. ولا يَحْسُن: اضرب مَنْ أفْضل، حتى تقول: من هو أفضل، ولا يَحْسُن: كُلْ ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خُذْ ما أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت «ما» و «مَنْ» و «الذي» بُنيت على الضم، قاله سيبويه.

قوله تعالى: هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يعني: أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم. و «صِلِيّاً» : منصوب على التفسير، يقال: صَلي النار يصلاها: إِذا دخلها وقاسى حَرَّها. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها في الكلام إِضمار تقديره: وما منكم أحد إِلا وهو واردها. وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه عامّ في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري: ووجه هذا أنه لما قال: لَنُحْضِرَنَّهُمْ وقال: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا كان التقدير وإِن منهم، فأبدلت الكاف من الهاء، كما فعل في قوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «١» المعنى: كان لهم، لأنه مردود على قوله:

وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ «٢» ، وقال الشاعر:

شطّت مزار العاشقين وأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم


(١) سورة الإنسان: ٢٢.
(٢) سورة الإنسان: ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>