للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.

والثاني: أن المنسوخ منها: وَلا تَعْتَدُوا، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان: أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل. والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.

والقول الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة، والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ «١» .

فصل: واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين: أحدهما: أنها قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري. والثاني: أنها هذه الآية: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قاله أبو العالية، وابن زيد.


(١) فائدة: قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٤٦: وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيّرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم فإن قاتل الصبي قتل.
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقّون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: «وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة لا تهاج. رواه أشهب وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها.
الرابعة: الزّمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت به إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيّرا بين خمسة أشياء: القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذّمّة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقوله تعالى لا تَعْتَدُوا قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: لا تَعْتَدُوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>