للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: ماذا تَعْبُدُونَ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله. أَإِفْكاً أي:

أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟! كأنه قال: فما ظنُّكم أن يصنع بكم؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيه قولان: أحدهما: أنه نظر في عِلم النجوم، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك. قال ابن المسيّب: رأى نجماً طالعاً، فقال: إِنِّي مريض غداً. والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في عِلْمها. فإن قيل: فما كان مقصوده؟ فالجواب أنه كان لهم عيد، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم، فاعْتَلَّ بهذا القول.

قوله تعالى: إِنِّي سَقِيمٌ من معاريض الكلام، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: سأَسْقُمُ، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أَعْلَمَه الله عزّ وجلّ أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه، فلما رأى النَّجم، عَلِم أنه سيَسْقُم. والثاني: إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له، حكاه الماوردي. وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلمّا كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إِني سقيم أشتكي رجلي، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي: مال إِليها- وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم- فَقالَ إبراهيم استهزاءً بها أَلا تَأْكُلُونَ.

وقوله تعالى: ضَرْباً بِالْيَمِينِ في اليمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك.

والثاني: بالقُوَّة والقُدرة، قاله السدي، والفراء. والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «١» . حكاه الماوردي. قال الزجاج: «ضَرْباً» مصدر والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين وإِنما قال: «عليهم» ، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «يَزِفُّونَ» بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضَّل عن عاصم: «يُزِفُّونَ» برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن السّميفع وأبو المتوكل والضحاك: «يَزِفُونَ» بفتح الياء وكسر الزاء وتخفيف الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو نهيك: «يَزْفُونَ» بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النَّعام، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام، يقال: زَفَّ النَّعام يَزِفُّ وأمَّا ضم الياء، فمعناه: يصيرون إِلى الزَّفيف، وأنشدوا:

فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا «٢» أي: صار إِلى القَهْر. وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء، وعَرَفه غيرهما. قال المفسِّرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلمّا انتَهَوْا إِليه، قال لهم محتجّاً عليهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ بأيديكم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قال ابن جرير: في «ما» وجهان «٣» : أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله


(١) الأنبياء: ٥٧.
(٢) هو عجز بيت للمخبّل السعدي كما في «اللسان» - قهر-. وصدره: تمنّى حصين أن يسود جذاعه.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ١٨: وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب «أفعال العباد» عن حذيفة مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» .

<<  <  ج: ص:  >  >>