للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نتولّى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمدٍ، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.

وفي معنى الآية قولان «١» : أحدهما: أنه أراد بالذين يَدْعَون مِنْ دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيرَ والملائكةَ، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة. والثاني: أن المراد بالذين يَدْعُون:

عيسى وعزيرُ والملائكةُ الذين عبدهم المشركون بالله لا يَمْلِك هؤلاء الشفاعةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ أي:

إلاَ لِمَنْ شَهِد بِالْحَقِّ وهي كلمة الإِخلاص وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ الله عزّ وجلّ خلق عيسى وعزير والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد. وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.

قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ قال قتادة: هذا نبيُّكم يشكو قومَه إِلى ربِّه. وقال ابن عباس: شكا إلى الله تخلُّف قومه عن الإِيمان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «وقِيلَه» بنصب اللام وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أضمر معها قولاً، كأنه قال: وقال قيلَه، وشكا شكواه إِلى ربِّه. والثاني:

أنه عطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وقِيلَه فالمعنى: ونَسمع قِيلَه، ذكر القولين الفراء، والأخفش. والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده عِلْم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، لأن معنى «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» : يَعْلَم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، هذا اختيار الزجاج. وقرأ عاصم وحمزة: «وقِيلهِ» بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إِلى الياء والمعنى: وعنده عِلْم الساعة وعِلْمُ قِيلِه. وقرأ أبو هريرة وأبو رزين وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام والمعنى: ونداؤه هذه الكلمة: يا ربّ ذكر عِلَّة الخفض والرفع الفراء والزجاج.

قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: فأعْرِض عنهم وَقُلْ سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قُلْ خيراً بدلاً من شرِّهم، قاله السدي. والثاني: ارْدُد عليهم معروفاً، قاله مقاتل. والثالث: قُلْ ما تَسْلَم به من شرِّهم، حكاه الماوردي. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يَعْلَمون عاقبة كفرهم. والثاني:

أنك صادق. والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: «فسوف يعلمون» . وقرأ نافع، وابن عامر: «تعلمون» بالتاء. ومن قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل فنَسختْ آيةُ السيف الإعراض والسّلام.


(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٦١: قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي من الأصنام، والأوثان (الشفاعة) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢١٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده، فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ووافقهما القرطبي في «تفسيره» ١٦/ ١٠٦ وقال: وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يدل على معنيين: أحدهما- أن الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أي شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها.

<<  <  ج: ص:  >  >>