للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «١» . قوله عزّ وجلّ: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها. قوله عزّ وجلّ:

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ هذا معطوف على قوله تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ، والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله مَنْ يَنْصُرُهُ بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ في مواضع. وقوله عزّ وجلّ: بِالْغَيْبِ أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب.

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)

قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعني: الكتب فَمِنْهُمْ يعني: من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فيه قولان: أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: أَتْبَعْنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما بِعِيسَى وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه رَأْفَةً وقد سبق بيانها «٢» والمعنى أنهم كانوا متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه السّلام، فقال عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «٣» .

قوله عزّ وجلّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا معطوفاً على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي: جاءوا بها من قِبل أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبُّد في الجبال ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: ما فرضناها عليهم.

وفي قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قولان:

أحدهما: أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزّ وجلّ: ابْتَدَعُوها والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم، وهذا قول الجمهور. وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم.

والثاني: أنه راجع إلى قوله عزّ وجلّ: «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوّعا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، وهو ما


(١) الزمر: ٦.
(٢) النور: ٢.
(٣) الفتح: ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>