للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه الإشارة إِلى قصتهم «١»

ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدّباس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاثة بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: إِذْ أَقْسَمُوا أي:

حلفوا لَيَصْرِمُنَّها أي: ليقطعنّ نخلهم مُصْبِحِينَ أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.

وفي قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْتَثْنُونَ قولان: أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون.

والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت قد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضا.

قوله عزّ وجلّ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني:

الثمار والزروع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: قاطعين للنخل، فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا إلى جنَّتهم وَهُمْ يَتَخافَتُونَ قال ابن قتيبة: يتشاورون ب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.

قوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ فيه ثمانية أقوال: أحدها: على قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية. والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء! ومقاتل.

والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة. والخامس: أنّ الحرد، اسم الجنّة،


(١) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨/ ٢١٠: قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: ١٤١] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحياة وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح، والثاني: حسن، وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية، قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: ٢٥] وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.

<<  <  ج: ص:  >  >>