للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عزّ وجلّ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: من لم يؤمن منهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعِث، قاله الأكثرون. والثاني: القرآن، قاله أبو العالية. والثالث: ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ، ذكره الماوردي. وقال الزجاج: وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كتبهم.

قوله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا أي: في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ. أي: إلا أن يعبدوا الله. قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا، كقوله عزّ وجلّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «١» ، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «٢» . وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «٣» .

قوله عزّ وجلّ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين لا يعبدون سواه حُنَفاءَ على دين إبراهيم وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند وجوبها وَذلِكَ الذي أُمروا به هو دِينُ الْقَيِّمَةِ قال الزجاج: أي دين الأمة القيِّمة بالحق. ويكون المعنى: ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة «٤» .

قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما. قال ابن قتيبة: البريَّة: الخلق. وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب أي خلق من التراب، وقالوا: لذلك لا يهمز، وقال الزّجّاج:

لو كانت من البَرَي وهو التَراب لما قرنت بالهمز، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق، وقال الخطابي:

أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال مقاتل: رضي الله عنهم بطاعته وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وكان بعض السلف يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك؟! قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه في الدنيا، وتناهى عن معاصيه «٥» .


(١) النساء: ٢٦.
(٢) الصف: ٨.
(٣) الصف: ٨.
(٤) الأنعام: ٧١.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦٤٣: وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. قال ابن العربي رحمه الله في «الإحكام» ٤/ ٤٣٧: أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه، وذلك هو الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد، لأنها عبادة، فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة، فإن قيل: فلم خرجت عنه طهارة النجاسة، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا: إزالة النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد، كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج منه ريح بطل وضوءه.

<<  <  ج: ص:  >  >>