للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، اشتد ذلك على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب. فقالوا: قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير» . فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها آمَنَ الرَّسُولُ.

قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس «وكتابه» ، فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كُتُب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف، وكذلك في «التحريم» وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع، وفي «التحريم» بالتوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين، مثل «رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين، وثقَّل ما عدا ذلك. وفي قوله تعالى: عَلى رُسُلِكَ، روايتان، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل، ومعنى قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء وفتح الراء.

قوله تعالى: غُفْرانَكَ، أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]]

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)

قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، الوسع: الطاقة، قاله ابن عباس، وقتادة.

ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزمن السعي، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف، لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً، كان السؤال عبثاً، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً «١» ، وقال ابن الأنباري:

المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «٢» . قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ، قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من معصية. قال أبو بكر النقاش:

فقوله: «لها» دليل على الخير، و «عليها» دليل على الشر. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات


(١) الكهف: ٥٧.
(٢) هود: ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>