للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحدّثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عزّ وجلّ هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى:

كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ «١» وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «٢» فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين» ، كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد:

لعلِّيَ إن مالت بي الرّيح ميلة ... عن ابن أبي ديَّان أن يتندَّما

فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «٣» والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدُّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مُداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم:

لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم.

قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي: ودُّوا عَنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ، ويقال: فلان يعنت فلاناً، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمةٌ عنوتٌ، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى مِنْ دُونِكُمْ أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر.

قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة «٤» ، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلّهم الله.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٩]]

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)


(١) سورة البقرة: ١٧١.
(٢) سورة البقرة: ٢٣٤.
(٣) سورة الزمر: ٦٠.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٩٨: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية، دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>