للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى في هذه القسمة قولان: أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزهري. والثاني: أنها وصيّة الميّت قبل موته، فيكون مأموراً. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً، روي عن ابن عباس، وابن زيد. قال المفسّرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إِلى أنه واجب في المال، فان كان الورثة كباراً، تولوا إِعطاءهم، وإِن كانوا صغاراً تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتامِ ولِيَهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمّنتْه هذه الآية واجب.

وفي «القول المعروف» أربعة أقوال: أحدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير. والثاني: أن يقول الولي: إِنه مال يتامى، وما لي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن ابن جبير، قال: إِن كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفذت لهم وصيَّتهم، وإِن كان الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانوا صغاراً، قال وليُّهم: إِني لست أملك هذا المال، إِنما هو للصغار، فذلك القول المعروف. والثالث: أنه العِدَة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إِن هؤلاء الورثة صغار، فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير. والرابع: أنهم يُعْطَوْنَ من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.

فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:

أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.

والقول الثاني: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة في آخرين «١» .


(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٥/ ٤٨: بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن: هي ثابتة- محكمة- ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها، هما واليان: وال يرث، وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أمل.
لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ- العطاء القليل- واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>