للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي: ابتدأتها، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي: لتقف، ومثله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا «١» . وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير، قال: وهذا السّلاح كالسّيف، يتقلده الإِنسان، والخنجر يشده إِلى ذراعه.

قوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا يعني المصلين معه فَلْيَكُونُوا في المشار إليهم قولان:

أحدهما: أنهم الطّائفة التي لم تصل، أُمرت أن تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس.

واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إِذا أتموا مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وانصرفوا، وقد تمت صلاتهم، وقال آخرون: ينصرفون عن ركعةٍ، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم. وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس وهم على صلاتهم، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة. واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم: إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائِتة، ثم يسلّم بهم، وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون: بلى يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة «٢» .


(١) البقرة: ٢٠.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٣/ ٢٩٨- ٣١٣: وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس، وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم بهم. وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا، فإذا كان سفر يبيح القصر، صلى بهم ركعتين، بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة. وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز، نصّ عليه أحمد. ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن. ولا تجب التسوية بين الطائفتين، لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس. ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى. فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه، ويبنوا على ما مضى من صلاتهم. وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق، فروي أنه أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته. ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف. ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال:
ستة أوجه أو سبعة يروى فيها، كلها جائز. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار واحدا منها، قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره.
والحديث الذي اختاره الإمام أحمد رواه. ولفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف، فصلاته وصلاتهم فاسدة. وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة، صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها. إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويجعلون السجود أخفض من الركوع، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصلي مع المسايفة، ولا مع المشي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلّ يوم الخندق- قد ورد الرد على هذا القول قبل قليل: انظر التعليق السابق- وأخّر صلاته. وقال الشافعي: يصلي، ولكن إن تابع الطعن، أو الضرب، أو فعل ما يطول، بطلت صلاته. ولنا قول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه من غير شدة خوف، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم، فمع الخوف الشديد أولى.
والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>