للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)

قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة غزاها، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لا يرضَوا لأنفسهم بالخفض والدّعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقة. يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه.

قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النهي عن التخلُّف بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو العطش، وَلا نَصَبٌ وهو التّعب، وَلا مَخْمَصَةٌ وهي المجاعة، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أسراً أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على جميع ذلك.

قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً قال ابن عباس: تمرة فما فوقها، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي: أُثبت لهم أجر ذلك، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ أي: بأحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التّخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان الجهاد يلزم الكل ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وقالت طائفة: فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين: أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يَقُوه بأنفسهم.

والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدِّين كلُّه، فأُمروا بالتظاهر لئلا يقلَّ العدد، وهذا الحكم باقٍ إلى وقتنا فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا، الآية محكمة. قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق.

[[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً في سبب نزولها أربعة أقوال «١» :


(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٥١٦: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا. ولكن عليهم إذا سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينفر معه من كل قبيلة من قبائل العرب طائِفَةٌ وهي الفرقة- وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جل.
ثناؤه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا إلى ها هنا. على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس وهو قول قتادة والضحاك وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب. لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأعراب، لغير عذر يعذرون به، إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ١٢٠] . ثم عقب ذلك جل ثناؤه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر، والمباح لهم من تركه حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم. أن يكون عقيب تعريفهم ذلك، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذر قومهم فيحذرهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لَعَلَّهُمْ يحذرون يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذارا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري لأن «النفر» قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء، أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو، فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. علم أن قوله لِيَتَفَقَّهُوا إنما هو شرط للنفر لا لغيره. إذ كان يليه دون غيره من الكلام. فإن قال قائل وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدنيا.
قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامهم معهم سببا لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه.
وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ عطفا به على قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به. ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا. في أنها تنذر من حيّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك. اه.

<<  <  ج: ص:  >  >>