للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يُنَاصِرُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يَتَوَلَّوْنَهُمْ. قَوْلُهُ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ قَبْلَ هَذَا، مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنَاصَرَتِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَتَرْكِ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أَيْ: تَقَعْ فِتْنَةٌ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ: مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمًا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَنَصَرُوهُمْ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ، فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أَيِ الْكَامِلُونَ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْأَوَّلُ وَارِدٌ فِي إِيجَابِ الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لَهُمْ مِنْهُ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلهم فِي الدُّنْيَا رِزْقٌ كَرِيمٌ خَالِصٌ عَنِ الْكَدَرِ، طَيِّبٌ مُسْتَلِذٌّ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مَنْ هاجر بعد هجرتهم، وجاهد مع المهاجرين الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُوَ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، أَي: مِنْ جُمْلَةِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَالْمُنَاصَرَةِ، وَكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رَحِمٌ فِي الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْقَرَابَاتُ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرَابَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْعَصَبَاتُ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ قَرَابَةَ الْأُمِّ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ قُتَيْلَةُ:

ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَاَمٌ هُنَاكَ تَشَقُّقُ

وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِ الْعَصَبَاتِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَثْبَتَ مِيرَاثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهُمْ: مِنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا ذِي سَهْمٍ عَلَى حَسَبِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ عِلْمِ الْمَوَارِيثِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْمِيرَاثِ بِالْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَا بَعْدَهُ بِالتَّوَارُثِ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهَا بِالنُّصْرَةِ، وَالْمَعُونَةِ، فَيَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ إِخْبَارًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِهِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ فِي الْقُرْآنِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ الْمِيرَاثُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِوُجُودِ سَبَبِهِ، أَعْنِي: الْقَرَابَةَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الْآيَةَ قَالَ:

إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ، وَفِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا قَالَ: آوَوْا وَنَصَرُوا وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ، وَشَهَرُوا السُّيُوفَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَجَحَدَ، فَهَذَانِ مُؤْمِنَانِ جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا قَالَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ بِالْوِلَايَةِ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ، فَبَرَّأَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ، وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي قَالَ مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>