للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مِلْتُمْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ، وَالْبَقَاءِ فِيهَا، وَقُرِئَ آثَاقَلْتُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَا فِي مَا لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَمْنَعُكُمْ؟ أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟

وإِلَى الْأَرْضِ متعلق باثاقلتم وَكَمَا مَرَّ. قَوْلُهُ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: بِنَعِيمِهَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ «١» أي: بدلا منكم، ومثله قول الشاعر:

فليت لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ

أَيْ: بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ يُنْصَبُ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ يعلق عليه لِيَبْرُدَ، وَمَعْنَى فِي الْآخِرَةِ أَيْ: فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ، وَفِي مُقَابِلِهَا إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: إِلَّا مَتَاعٌ حَقِيرٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلِيلِ: الْعَدَمُ، إِذْ لَا نِسْبَةَ لِلْمُتَنَاهِي الزَّائِلِ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي الْبَاقِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّثَاقُلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الْكُلِّ، إِذْ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُطْبِقُوا جَمِيعًا عَلَى التَّبَاطُؤِ وَالتَّثَاقُلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ نِسْبَةِ مَا يَقَعُ مِنَ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ شَائِعٌ. قَوْلُهُ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ لِمَنْ تَرَكَ النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أَيْ: يُهْلِكْكُمْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مُؤْلِمٍ قِيلَ: فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَقِيلَ: هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ: يجعل لِرُسُلِهِ بَدَلًا مِنْكُمْ مِمَّنْ لَا يَتَبَاطَأُ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ.

وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَنْ هُمْ. فَقِيلَ: أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ فَارِسَ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْيِينِ بِدُونِ دَلِيلٍ.

قَوْلُهُ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً مَعْطُوفٌ عَلَى يَسْتَبْدِلْ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: لِلَّهِ، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ:

وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ بِتَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بالنفير شيئا، أو تَضُرُّوا رَسُولَ اللَّهِ بِتَرْكِ نَصْرِهِ، وَالنَّفِيرِ مَعَهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِهِ تَعْذِيبُكُمْ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِكُمْ. قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ: إِنْ تَرَكْتُمْ نصره فالله سيتكفل بِهِ، فَقَدْ نَصَرَهُ فِي مَوَاطِنِ الْقِلَّةِ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ أَوْ فَسَيَنْصُرُهُ مَنْ نَصَرَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَقْتَ إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ حَالَ كَوْنِهِ ثانِيَ اثْنَيْنِ أَيْ: أَحَدَ اثْنَيْنِ، وَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر الصديق رضي الله عنه. قرئ بِسُكُونِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي:

حَكَاهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَوَجْهُهَا أَنْ تُسَكَّنَ الْيَاءُ تشبيها لها بِالْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ:

ما بقي من الربا. وكقول جرير:

هو الخليفة فارضوا ما رضي لَكُمْ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ

قَوْلُهُ: إِذْ هُما فِي الْغارِ بَدَلٌ مِنْ إِذْ أَخْرَجَهُ بَدَلُ بَعْضٍ، وَالْغَارُ: ثُقْبٌ فِي الْجَبَلِ الْمُسَمَّى ثَوْرًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِغَارِ ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقِصَّةُ خُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَدُخُولِهِمَا الْغَارَ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْحَدِيثِ. قَوْلُهُ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ بَدَلٌ ثَانٍ، أَيْ: وَقْتَ قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أَيْ: دَعِ الْحُزْنَ فَإِنَّ اللَّهَ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ مَعَنَا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَلَنْ يُغْلَبَ، وَمَنْ لَا يُغْلَبُ فَيَحِقُّ لَهُ أَنْ لَا يَحْزَنَ، قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ: تَسْكِينُ جَأْشِهِ وَتَأْمِينُهُ حَتَّى ذَهَبَ رَوْعُهُ وَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ لأبي


(١) . الزخرف: ٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>