للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا رَأَى مَرِيضًا لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَصْلًا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاسْتَرَاحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ذِكْرُ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ نَقْصٍ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا صَارَ فِي طَبَائِعِهِمْ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْحَقِّ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ خَلَقَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا يُدْرِكُونَ بِهِ أَكْمَلَ إِدْرَاكٍ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْحَوَاسِّ مَا يَصِلُونَ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَوَفَّرَ مَصَالِحَهُمُ الدُّنْيَوِيَّةَ عَلَيْهِمْ، وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَعَلَى نَفْسِهَا بِرَاقِشُ تَجْنِي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَلكِنَّ النَّاسَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِتَشْدِيدِهَا وَنَصْبِ النَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ: وَلكِنَّ بِالْوَاوِ شَدَّدُوا النُّونَ، وَإِذَا حَذَفُوا الْوَاوَ خَفَّفُوهَا. قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: زِيَادَةُ التَّعْيِينِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ: لِإِفَادَةِ القصر، أو بمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة. قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أَيْ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْبِهِينَ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِاللُّبْثِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ، اسْتَقَلُّوا الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إِمَّا: لِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَجَعَلُوا وَجُودَهَا كَالْعَدَمِ، أَوِ اسْتَقْصَرُوهَا لِلدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ، أَوْ: لِطُولِ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ، أَوْ: لِشِدَّةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ نَسُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «١» وَجُمْلَةُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَارَقُوا إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ التَّعَارِيفُ بَيْنَهُمْ لِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْهِشَةِ لِلْعُقُولِ الْمُذْهِلَةِ لِلْأَفْهَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعَارُفَ هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي وَأَغْوَيْتَنِي، لَا تَعَارُفَ شَفَقَةٍ وَرَأْفَةٍ كَمَا قال تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «٢» وَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «٣» فَيُجْمَعُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَارُفِ: هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ «٤» ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَغَيْرِهِ: بِأَنَّ الْمَوَاقِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ هَذَا تَسْجِيلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ: عِنْدَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ الْمُهْتَدِينَ لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ طَلَبِهِمْ لِمَا يُنْجِيهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَصْلُهُ: إِنْ نُرِكَ، وَمَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَزِيدَتْ نُونُ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ حَصَلَتْ مِنَّا الْإِرَاءَةُ لَكَ بَعْضَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ: مِنْ إِظْهَارِ دِينِكَ فِي حَيَاتِكَ بِقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَتَرَاهُ، أَوْ فَذَاكَ، وَجُمْلَةُ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَوْ لَا نُرِيَنَّكَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ، بَلْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ


(١) . الكهف: ١٩.
(٢) . المعارج: ١٠.
(٣) . المؤمنون: ١٠١.
(٤) . سبأ: ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>