للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ هَذَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَزْيِيفٌ لِرَأْيِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ بَعْدَ التَّزْيِيفِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَياتاً أَيْ: وَقْتَ بَيَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَقْتُ الَّذِي يَبِيتُونَ فِيهِ، وَيَنَامُونَ وَيَغْفُلُونَ عَنِ التَّحَرُّزِ، وَالْبَيَاتُ: بِمَعْنَى التَّبْيِيتِ اسْمُ مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منصب عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ: نَهَارًا، أَيْ: وَقْتَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالْكَسْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّهْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ «١» وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِعْجَالِهِمْ: أَنَّ الْعَذَابَ مَكْرُوهٌ تَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ الطَّبَائِعُ، فَمَا الْمُقْتَضَى لِاسْتِعْجَالِهِمْ لَهُ؟ وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ جَوَابُ الشَّرْطِ، بِحَذْفِ الْفَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تَنْدَمُوا عَلَى الِاسْتِعْجَالِ، أَوْ تَعْرِفُوا الْخَطَأَ مِنْكُمْ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ آمَنْتُمْ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَالَ: يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ تَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ، وَهُوَ الْإِجْرَامُ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُجْرِمِ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ إِجْرَامِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ؟ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يستوهم أَمْرًا إِذَا طَلَبَهُ: مَاذَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِكَ؟ وَحَكَى النَّحَّاسُ عَنِ الزَّجَّاجُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ إِنْ عَادَ إِلَى الْعَذَابِ كَانَ لَكَ فِي مَاذَا تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرُ مَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.

وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَاذَا اسْمًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَاذَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيستعجل، وَالْمَعْنَى:

أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدُخُولُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ عَلَى ثُمَّ كَدُخُولِهَا عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَهِيَ لِإِنْكَارِ إِيمَانِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ، وَتَفْظِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ وَالدَّفْعُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَجِيءَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي: دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِبْعَادِ، وَجِيءَ بِإِذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا لِلتَّأْكِيدِ: دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ اسْتِجْهَالٍ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَبَعْدَ مَا وَقَعَ عَذَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَلَّ بِكُمْ سَخَطُهُ وَانْتِقَامُهُ، آمَنْتُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْإِيمَانُ شَيْئًا؟ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرًّا وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ هَاهُنَا هِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ فَتَكُونُ ظَرْفِيَّةً بِمَعْنَى هُنَاكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قِيلَ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قِيلَ لَهُمْ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ: آلْآنَ آمَنْتُمْ بِهِ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ أَيْ: بِالْعَذَابِ، تَكْذِيبًا مِنْكُمْ وَاسْتِهْزَاءً، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ كَانَ عَلَى جهة التّكذيب


(١) . النحل: ١.

<<  <  ج: ص:  >  >>