للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَهُ «بَدَا» ، وَإِيَّاهُ عَنَى جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ:

وَأَنْتِ التي «١» حبّبت شغبا إِلَى بَدَا «٢» ... إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلَادٌ سِوَاهُمَا

وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أَيْ أَفْسَدَ بَيْنَنَا، وَحَمَّلَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ، يُقَالُ نَزَغَهُ إِذَا نَخَسَهُ، فَأَصْلُهُ مَنْ نَخَسَ الدَّابَّةَ لِيَقْوَى مَشْيُهَا، وَأَحَالَ يُوسُفُ ذَنْبَ إِخْوَتِهِ عَلَى الشَّيْطَانِ تَكَرُّمًا مِنْهُ وَتَأَدُّبًا إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ اللَّطِيفُ: الرَّفِيقُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: اللَّطِيفُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ، يُقَالُ: لَطُفَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَلْطُفُ إِذَا رَفَقَ بِهِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو: اللَّطِيفُ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْكَ أَرْبَكَ فِي لُطْفٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اللَّطِيفُ هُوَ الْبَرُّ بِعِبَادِهِ الَّذِي يَلْطُفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَيُسَبِّبُ لَهُمْ مَصَالِحَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمَعْنَى لِمَا يَشَاءُ: لِأَجْلِ مَا يَشَاءُ حَتَّى يَجِيءَ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِالْأُمُورِ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، وَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا خَلَّصَهُ مِنْهُ مِنَ الْمِحَنِ الْعَظِيمَةِ وَبِمَا خَوَّلَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمَهُ مِنَ الْعِلْمِ، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْخَيْرِ الْأُخْرَوِيِّ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، فَقَالَ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضِ الْمُلْكِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كُلَّ الْمُلْكِ، إِنَّمَا أُوتِيَ مُلْكًا خَاصًّا، وَهُوَ مُلْكُ مِصْرَ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أَيْ بَعْضِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ جَمِيعَ عِلْمِ التَّأْوِيلِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، أَوْ مُجَرَّدُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَقِيلَ: مِنْ لِلْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، أَيْ: آتَيْتَنِي الْمُلْكَ وَعَلَّمْتَنِي تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ صفة لربّ، لِكَوْنِهِ مُنَادًى مُضَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى بِحَرْفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَا فاطر، والفاطر: الخالق والمنشئ وَالْمُخْتَرِعُ وَالْمُبْدِعُ أَنْتَ وَلِيِّي أَيْ نَاصِرِي وَمُتَوَلِّي أُمُورِي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَتَوَلَّانِي فِيهِمَا تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أَيْ تَوَفَّنِي عَلَى الْإِسْلَامِ لا يفارقني حتى أموت، وألحقني بِالصَّالِحِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ آبَائِي وَغَيْرِهِمْ فَأَظْفَرُ بِثَوَابِهِمْ مِنْكَ وَدَرَجَاتِهِمْ عِنْدَكَ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قِيلَ: كَانَ عُمُرُهُ عِنْدَ أَنْ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالسِّجْنِ وَالْمُلْكِ ثَمَانِينَ سَنَةً إِلَى قُدُومِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شَمْلِهِمْ حَتَّى كَمُلَ عُمُرُهُ الْمِقْدَارَ الَّذِي سَيَأْتِي وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ. قِيلَ:

لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ غَيْرُ يُوسُفَ لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُلْحِقَهُ بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ يَعْقُوبُ مِصْرَ فِي مُلْكَ يُوسُفَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ فِي مُلْكِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَاتَ يُوسُفُ وَهُوَ ابْنُ مائة وعشرين سنة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ عُمُرُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قتادة في قوله:


(١) . في المطبوع: الذي! والمثبت من الديوان ص (٢٠٠) .
(٢) . شغب: موضع بين المدينة والشام. بدا: واد قرب أيلة من ساحل البحر.

<<  <  ج: ص:  >  >>