للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ إِلَيْهِ؟ فَقِيلَ: صِرَاطُ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.

وَالْعَزِيزُ هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ، وَالْحَمِيدُ هُوَ الْكَامِلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ اللَّهُ الْمُتَّصِفُ بملك ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ، فَلَا يَصِحُّ وَصْفُ مَا قَبْلَهُ بِهِ لِأَنَّ الْعَلَمَ لَا يُوصَفُ بِهِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وَكَانَ يَعْقُوبُ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمِيدِ رَفَعَ، وَإِذَا وَصَلَ خَفَضَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ خَفَضَ وَقَفَ عَلَى وَما فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِرُبُوبِيَّتِهِ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْوَيْلِ، وَأَصْلُهُ النَّصْبُ كَسَائِرِ الْمَصَادِرِ، ثُمَّ رُفِعَ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْعَذَابِ وَالْهَلَكَةِ، فَدَعَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْكُفَّارِ بهداية رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الإيمان ومِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ متعلق بويل عَلَى مَعْنَى يُوَلْوِلُونَ وَيَضِجُّونَ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي صَارُوا فِيهِ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ يُؤْثِرُونَهَا لِمَحَبَّتِهِمْ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: هُمُ الَّذِينَ وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أُولَئِكَ، وَجُمْلَةُ وَيَصُدُّونَ وَكَذَلِكَ وَيَبْغُونَ مَعْطُوفَتَانِ عَلَى يَسْتَحِبُّونَ، وَمَعْنَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْهُ وَمَنْعُهُمْ مِنْهُ، وَسَبِيلُ اللَّهِ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ: يَطْلُبُونَ لَهَا زَيْغًا وَمَيْلًا لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. وَالْأَصْلُ يَبْغُونَ لَهَا فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ نِهَايَةُ الضَّلَالِ، وَلِهَذَا وَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ فَقَالَ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالْبُعْدُ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الضَّالِّ لَكِنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ الضَّلَالِ بِهِ مَجَازًا لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ لَمَّا منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ ذَكَرَ مِنْ كَمَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُرْسَلَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِلِسَانِهِمْ مُتَكَلِّمًا بِلُغَتِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهِمَ عَنْهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ مَا يَقُولُهُ لَهُمْ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بِلِسَانِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُ وَلَا يَفْهَمُونَ مَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ذَلِكَ اللِّسَانَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فلا بدّ أن يصعب عليهم فَهْمُ ذَلِكَ بَعْضَ صُعُوبَةٍ، وَلِهَذَا عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ:

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَيْ: لِيُوَضِّحَ لَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ وَوَحَّدَ اللِّسَانَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّغَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا بَلْ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلُغَاتُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ وَأَلْسِنَتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. وَأُجِيبَ بأنه وإن كان صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ كَمَا مَرَّ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَوْمُهُ الْعَرَبَ وَكَانُوا أَخَصَّ بِهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ كَانَ إِرْسَالُهُ بِلِسَانِهِمْ أَوْلَى مِنْ إِرْسَالِهِ بِلِسَانِ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُبَيِّنُونَهُ لِمَنْ كَانَ على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فإهماله كَفَهْمِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِجَمِيعِ لُغَاتِ من أرسل

<<  <  ج: ص:  >  >>