للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بِعَجِيبَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وَقَعَ حَالًا، وَالتَّنْوِينُ فِي رَحْمَةً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَتَقْدِيمُ مِنْ لَدُنْكَ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: رَحْمَةً مُخْتَصَّةً بِأَنَّهَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ، وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَمْنُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أَيْ: أَصْلِحْ لَنَا، مِنْ قَوْلِكَ هَيَّأْتُ الْأَمْرَ فَتَهَيَّأَ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمُ الْأَمْرُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن لِلِابْتِدَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّجْرِيدِ كَمَا فِي قَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ رَشَدًا: وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمَا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَمْنَاهُمْ.

والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمِ الْحِجَابَ تَشْبِيهًا لِلْإِنَامَةِ الثَّقِيلَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْأَصْوَاتِ إِلَى الْآذَانِ بِضَرْبِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا، وفِي الْكَهْفِ ظَرْفٌ لِضَرَبْنَا، وَانْتِصَابُ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وعَدَداً صِفَةٌ لِسِنِينَ أَيْ: ذَوَاتَ عَدَدٍ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ بِمَعْنَى مَعْدُودَةً عَلَى أَنَّهُ لِمَعْنَى الْمَفْعُولُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِ السِّنِينَ بِالْعَدَدِ الْكَثْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ فُهِمَ مِقْدَارُ عَدَدِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْعَدَدِ، وَإِنْ كَثُرَ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُعَدَّ، وَقِيلَ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّقْلِيلُ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «١» . ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أَيْ: أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ لِنَعْلَمَ أَيْ: لِيَظْهَرَ مَعْلُومُنَا، وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا للفاعل على طريقة الالتفات، وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ مُبْتَدَأٌ مُعَلَّقٌ عَنْهُ الْعِلْمُ لِمَا فِي أَيُّ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ، وَخَبَرُهُ أَحْصى وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، قِيلَ:

وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً لِلْبَعْثِ هُوَ الِاخْتِبَارُ مَجَازًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَعَثْنَاهُمْ لِنُعَامِلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُهُمْ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ظُهُورُ مَعْلُومِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِزْبَيْنِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَمَعْنَى أَحْصَى: أَضْبَطَ. وَكَأَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ مَنْ ضَبَطَ الحساب ممن لم يضبطه، وما فِي لِما لَبِثُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ، وقيل: اللام زائدة، وما: بمعنى الذي، وأَمَداً تَمْيِيزٌ، وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَحْصَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الشَّاذِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَفْلَسُ مِنِ ابْنِ الْمُذَلَّقِ «٢» ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مِنَ الْمَزِيدِ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ عُصْفُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ انْتِبَاهِهِمْ كَمْ لَبِثُوا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ حِزْبٌ وَأَصْحَابَهُمْ حِزْبٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ أي: نحن نخبرك بِالْحَقِّ، أَيْ: قَصَصْنَاهُ بِالْحَقِّ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي: أحداث شبان، وآمَنُوا بِرَبِّهِمْ صِفَةٌ لِفِتْيَةٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ،


(١) . الحج: ٤٧.
(٢) . ابن المذلق: من عبد شمس، لم يكن يجد بيت ليلة، ولا أبوه، ولا أجداده، فقيل: أفلس من ابن المذلّق.

<<  <  ج: ص:  >  >>