للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَا يَحْتَاجُهُ مِنَ الرِّزْقِ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْتِيعِ إِلى عَذابِ النَّارِ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنَالُ الْكَفَرَةَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا تَمْتِيعُهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَأُمَتِّعُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ له: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ دَعَا لِلْكَافِرِينَ بِالْإِمْتَاعِ قَلِيلًا، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. وَمَعْنَى: أَضْطَرُّهُ: أَلْزَمَهُ حَتَّى صَيَّرَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُخَلِّصًا، ولا منه متحوّلا. وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ هُوَ حِكَايَةٌ لِحَالٍ مَاضِيَةٍ اسْتِحْضَارًا لِصُورَتِهَا الْعَجِيبَةِ.

وَالْقَوَاعِدُ: الْأَسَاسُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْجُدُرُ. وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهَا: رَفْعُ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ فَوْقَهَا، لَا رَفْعُهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَرْتَفِعْ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ فَوْقَهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا مُرْتَفِعَةٌ بِارْتِفَاعِهِ، كَمَا يُقَالُ: ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، وَلَا يقال: ارتفع أعالي البناء، ولا أسافله. وقوله: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَائِلِينَ: رَبَّنَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل» . وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيِ: اجْعَلْنَا ثَابِتَيْنِ عَلَيْهِ، أَوْ زِدْنَا مِنْهُ. قِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ هُنَا: مَجْمُوعُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أي: واجعل من ذريتنا، و «من» لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلتَّبْيِينِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ: الْعَرَبَ خَاصَّةً، وَكَذَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ ظَهَرَتْ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «١» وَتُطْلَقُ عَلَى الدِّينِ وَمِنْهُ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «٢» وَتُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ، وَمِنْهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «٣» وَقَوْلُهُ: وَأَرِنا مَناسِكَنا هِيَ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَغَيْرِهِمْ:

«أَرْنَا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَرْنَا إِدَاوَةَ عبد الله نملؤها ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا

وَالْمَنَاسِكُ: جَمْعُ نُسُكٍ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْغَسْلُ، يُقَالُ نَسَكَ ثَوْبَهُ: إِذَا غَسَلَهُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُرَادُ هُنَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَقِيلَ: مَوَاضِعُ الذَّبْحِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُتَعَبَّدَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَتُبْ عَلَيْنا قِيلَ الْمُرَادُ بِطَلَبِهِمَا لِلتَّوْبَةِ: التَّثْبِيتُ. لِأَنَّهُمَا مَعْصُومَانِ لَا ذَنْبَ لَهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ: تُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنَّا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ أَيْ: أَمَرْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ قَالَ: مِنَ الْأَوْثَانِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ، وَزَادُوا: الرَّيْبَ، وَقَوْلَ الزُّورِ، وَالرِّجْسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ قَائِمًا فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِينَ يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: هُمُ الْعَاكِفُونَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عضاهها» كما أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي،


(١) . النحل: ١٢٠.
(٢) . الزخرف: ٢٢.
(٣) . يوسف: ٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>