للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُخْتَارًا وَأَخْلَصْنَاهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالتَّوْحِيدَ لِلَّهِ غَيْرَ مُرَاءٍ لِلْعِبَادِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أَيْ: أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فَأَنْبَأَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ، فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ النَّبِيِّ بَعْدَ الرَّسُولِ مَعَ اسْتِلْزَامِ الرِّسَالَةِ لِلنُّبُوَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالرَّسُولِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: الرَّسُولُ: الَّذِي مَعَهُ كِتَابٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يُنْبِئُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ كِتَابٌ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرَ الْأَعَمِّ قَبْلَ الْأَخَصِّ، إِلَّا أَنَّ رِعَايَةَ الْفَاصِلَةِ اقْتَضَتْ عَكْسَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي:

طه: بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى «١» انْتَهَى. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أَيْ: كَلَّمْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ، وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ اسْمُهُ زُبَيْرٌ، وَمَعْنَى الْأَيْمَنِ: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عَنْ يَمِينِ مُوسَى، فَإِنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَالنِّدَاءُ وَقَعَ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ يَمِينَ الْجَبَلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ الْجِبَالَ لَا يَمِينٌ لَهَا وَلَا شِمَالٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَيْمَنِ الْمَيْمُونِ، وَمَعْنَى النِّدَاءِ: أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أَيْ: أَدْنَيْنَاهُ بِتَقْرِيبِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى كَلَّمْنَاهُ، وَالنَّجِيُّ بِمَعْنَى الْمُنَاجِي كَالْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ، فَالتَّقْرِيبُ هُنَا هُوَ تَقْرِيبُ التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ قَرَّبَهُ الْمَلِكُ لِمُنَاجَاتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَّبَهُ مِنْهُ فِي الْمَنْزِلَةِ حَتَّى سَمِعَ مُنَاجَاتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَيْ: مِنْ نِعْمَتِنَا، وَقِيلَ: مِنْ أجل رحمتنا، وهارُونَ عطف بيان، ونَبِيًّا حَالٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ قَالَ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي «٢» . وَوَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ مَعَ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ مُبَالِغًا فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِأَنَّهُ وَعَدَ الصَّبْرَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِذَلِكَ، وَكَانَ يَنْتَظِرُ لِمَنْ وَعَدَهُ بِوَعْدٍ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، حَتَّى قيل: إنه انتظر بعض مَنْ وَعَدَهُ حَوْلًا. وَالْمُرَادُ بِإِسْمَاعِيلَ هُنَا هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ:

هُوَ إسماعيل بن حزقيل، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَسَلَخُوا جِلْدَةَ رَأْسِهِ، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَاسْتَعْفَاهُ وَرَضِيَ بِثَوَابِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِسْمَاعِيلَ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ فَإِنَّ أَوْلَادَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَصَفَهُ بِالرِّسَالَةِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَرْسَلَهُ إِلَى جُرْهُمٍ وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِهِ هُنَا أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: جُرْهُمٌ، وَقِيلَ: عَشِيرَتُهُ كما في قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «٣» . وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ- هُنَا- هُمَا الْعِبَادَتَانِ الشَّرْعِيَّتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيُّ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أَيْ: رَضِيًّا زَاكِيًا صَالِحًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: مَنْ قَالَ مَرْضِيٌّ بَنَى عَلَى رَضِيتُ، قَالَا: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ مَرْضُوٌّ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ اسْمُ إِدْرِيسَ أَخْنُوخُ، قِيلَ: هُوَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنَّ نُوحًا هُوَ ابْنُ لَامِكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ جَدَّ أَبِي نُوحٍ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَامْتِنَاعُ إِدْرِيسَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنَظَرَ فِي النُّجُومِ وَالْحِسَابِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ. قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ مِنْ بَنِي آدَمَ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رفعه إلى السماء الرابعة، وقيل: إلى


(١) . طه: ٧٠. [.....]
(٢) . طه: ٢٩- ٣٠.
(٣) . الشعراء: ٢١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>